“الطوبائية ما هي إلاّ اسم يعطى للإصلاحات، عندما يجب لنا انتظار الثورات للقيام بها”
L’utopie n’est que le nom donné aux réformes lorsqu’il faut attendre les révolutions pour les entreprendre (Jacques Attali, philosophe français

سؤالٌ جِدُ صعب ولكنهُ من واجبنا تقصي الحقائق والبحث عن العلل والأسباب الكامنة وراء هذا التخاذُل والاستياء الكبير لمثقفينا وسياسة الهروب إلى الأمام التي تمتطيها السلطة السياسية الحالية كجدوة حصان. إنّ ربيع الشعوب، مع كل الدلالات التي يحويها هذا المصطلح الذي اجتاح أجندة الديكتاتوريات العربية ورغم كل الاستثناءات السلبية التي أفرزها كالقضية الليبية مثلاً، أين تحولت ثورة شعبٍ برُمتهِ إلى حربٍ شنتها قواتُ حِلفِ الناتو على أركان نظامِ القذافي، يبقى همزةَ وصلٍ أساسية بين المد التحرري في الستينيات من القرن الماضي والحاضر البائس الذي تعيشُ في كنفهِ جُلُ الأقطار العربية والأمصار الإسلامية دون استثناء.

الجزائر على خلافِ جاراتها، حالة باثولوجية صعبة العلاج، كونها عاشت تحت نَيرِ وطُغيانِ استدمارٍ بشريٍ من أبشعِ ما يكون منذ القرن التاسع عشر (في هذا الجانب على سبيلِ المثال لا الحصر، نرى فيها، حالة استثنائية مثلها مثل فيتنام، فتونس، ومصر وليبيا كانت تحت حمايةٍ أو وصايةٍ، فرنسية، إنجليزية أو إيطالية، ليست موازية لا من ناحية العنف النفسي ولا التسلط السياسي لما عاشتهُ الجزائر)، وبعد هذه الفترة الجهنمية، انغمست بلادنا في وحلِ الشرخ السياسي (نظام استبدادي وريعي) يستنجدُ كلما سمحت لهُ الفرصة، بإسلاموية عفنة ومتواطئة معه. هذا كلهُ في خضمِ ديكورٍ تتقاسمهُ زمرةٌ من الوطنيين الاصطناعيين والمتمّرسين بالسياسة على ظهرِ الشعب مع، ويا للأسف في الأخير، شبه نخبٍ مُدجّنة ومحاكة على المقاس، هدفها الوحيد والأوحد، تمرير مشاريعٍ فارغة من محتوى جدي (مترو الجزائر الذي حُفر وبني ودشنَ في منطقة زلزالية ومشروع بناء أكبر مسجد في البلاد الإسلامية في ضواحي الجزائر العاصمة، في الوقتِ الذي تعاني فيه معظمُ الجامعات الوطنية نقصًا بيداغوجيًا فادحًا في المعدّات والعتاد التكنولوجي والهيكلي وتشهد كل المؤسسات العمومية والاقتصادية، بما فيها البلديات والدوائر، عجزًا ماليًا يبعثُ على القلق (ثلاث أرباع1541 بلدية تأكل من المال العام، وهذا بتصريح وزير الداخلية نفسه). والمؤسف في كل هذا السرد أن شُباننا تموُتُ تباعًا وبدون أدنى اكتراث للسلطات الوصية في زوارق “الحرقة” وعلى ضفاف شواطئ الجنان الأوروبية من جهة، ونسبةُ العنوسة لشاباتنا ترتفعُ كل يومٍ وتتزايد من جهةٍ أخرى، كون الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للبلاد جدُ مزرية ولا تسمح باستكمال هذا الواجب الاجتماعي والديني المفروض).

هذا يؤدي بنا إلى الجزم قولاً بشرعية الشروع بتغييرٍ فوريٍ للنظام السياسي في البلاد من الداخل إذْ أمكنَ ذلك (أصحاب القرار الذين بقي لهم شيءٌ من الوطنية)، ومن الخارج (المجتمع المدني والمنظمات الجمعوية والتنظيمات الشعبية على اختلافِ مشاربها). كل هذه العوامل وغيرها حركت من ذي قبلٍ الفئات الشعبية المحرومة، وأرغمت الشباب إلى الخروج إلى الشارع في أكتوبر1988، وأدخلت بعدها الجزائر في حربٍ أهليةٍ في مستهلِ التسعينيات من القرن الماضي، يتحمّل أوزارها اليوم المجتمعُ قاطبةً. فالكاتب الفرنسي إدغار موران مثلاً، في كتابهِ “نحو الهاوية”، أرجعَ كافة عقود الاستبداد السياسي التي عاشتها الجزائر في مرحلة الاستقلال الوطني إلى غيابِ حلٍ سياسيٍ للقضيةِ الوطنية من طرفِ اليسارِ الحاكم أثناء حربِ التحريرِ الوطنية. في الحقيقة، هذا الموقف الجد مُشرف لمثقفٍ فرنسيٍ عاش وعايشَ الثورة، يدل على الشجاعة والرزانة والدقة في التحليل التي يتحلى بهما، كون الهمجية التي طالت أعمال التخريب والتدمير التي قام بها الإرهاب في التسعينيات مجرهُ أولاً، غياب الوعي السياسي والقابلية للتفاوض والحل السلمي للأزمة السياسية المتعددة الجوانب والفروع من طرف النظام الحاكم، ثانيًا، الانقلاب العسكري الذي حدث في 11 جانفي 1992 على شاكلة ونمط الانقلابات التي طرأت من قبل الفرق العسكرية أو ما يسمى (لي جونت)  في أمريكا اللاتينية كان مجازفةً من طرف أصحاب القرار وإصرارٌ منهم على البقاء في سُدةِ الحكم وحرمان الفيس والأفافاس وكذا الأفلان بوصف هذا الأخير بقيادة عبد الحميد مهري يميل أكثر إلى المعارضة، من فرض قطيعة مع الماضي والدخول في مرحلة جديدةٍ من تاريخ الجزائر. فالرئيس بوتفليقة بنفسهِ، قال أنّ توقيف المسار الانتخابي كان أول سابقةٍ في العنف في الجزائر. بعبارةٍ أخرى، توقيف المسار الانتخابي هو بمثابةِ احتقار للشعب وصفعة قوية لثلاثي الجبهاتِ الثلاث “الفيس، الأفافاس، والأفلان”.

اليوم، بعد نجاحِ ربيعِ الشعوب٬ نرى أنّ الإسلاميين في ليبيا، مصر، وتونس وحتى جارتنا القريبة، المغرب، هم أوّل من نجح بالظفر برغبةِ الشعبِ في معترك الانتخابات. كل شعبٍ حُر في اختيار من يحكمهُ و تقرير مصيرهِ بنفسهِ ولا يحتاجُ أبدًا إلى وصايةِ الغرب أو نصائحه. أفليس هذا هو ما نص عليهِ بيان أول نوفمبر 1954؟ ثالثًا، ولابد لنا هنا أن نقومَ بنوعٍ من الانتقاد الذاتي، الجزائريون افتخروا كثيرًا بالثورة التحريرية حتى وجدوا أنفسهم على جانب السكة، هنا يجب الإشارة إلى إلزامية العمل على نسيان بطوليات الماضي والتفكير جليّا في المستقبل في كنفِ الوحدةِ الوطنية، ومن نافلةِ القول التذكيرُ هنا بأننا اليوم أمام شعوبٍ ثائرة وواعية بمصيرها ومن واجبنا توخي أثرها و إصلاح ما يمكن إصلاحهُ مما فسدَ وأُفْسِد جهرًا وجِهارًا من طرف الاستدمار الفرنسي، النظام الحاكم، الإرهاب والتقنوقراطيين الفاسقين…

إنّ الجزائر في الوقتِ الراهن تعيشُ تلاشٍ كبير للطموح الشعبي وتشنج خطير في بواعث النضال السياسي، وتنامي نزعةِ الشُؤم والإستكانة للوضع الراهن، خاصةً في صفوفِ فئةِ الشباب، وكذا، وهذا أمرٌ جدُ خطير، حاضرًا ومستقبلاً، وحتى إن سقط النظام الحالي، القَبول الضمني والعلني، سواءٌ عن قصدٍ أو غيرِ قصد من طرف الفئات الشعبية بسياسةِ الحلولِ الترقيعية (إصلاحات لا تَصلُح ولا تُصلِح)، فالسلطة السياسية تهربُ من الواقع والشعبُ يعيشُ في الخيال، متوهمًا أن هذه الأخيرة، أي السلطة السياسية، لها النية والعزيمة للعمل للمصلحة العليا للبلاد.

إن العبث بالإرادة الشعبية والتلاعب بمصالحِ الدولة التي تتجلى في تصرُفاتِ النظامِ الحالي، ستؤدي بهِ حتمًا إلى الهاوية، أو إن صحَ التعبير، ستبعثُ بهِ إلى مشنقةِ التاريخ. لماذا يا ترى؟ الجوابُ في غايةِ السهولة. لأنهُ بكلِ بساطة، الوضع الحالي، إذْ كان يخدمهُ في ماضي الديكتاتوريات، لن يخدُمَهُ ولن يخدمَ الشعبَ في حاضر الديمقراطيات وعلى الأمد البعيد. هذا النظام القابع على الحكم منذ أزيد من أربعةِ عقود، فاشلٌ في كل المجالات، سياسيةٌ منها كانت، ثقافية، اجتماعية أو اقتصادية وحتى دبلوماسية، لا سيما منها تلك المواقف المُخزية على الصعيدين الإفريقي والدولي وتجاه الثورات العربية، وخاصةً عندما نرى وزيرًا يصرحُ على الهواء مباشرةً أنّ الثوار الليبيين يجبُ أن يتوضأوا قبلَ ذِكر اسم الجزائر أو الحديث عنها. فلربّما الأصحُ عليهِ أن يقول بدلَ الثوار الليبيّين، أصحابُ القرار الذّين اغتالوا بلادنا العزيزة والشريفة ولطخوها بنجاستهم وتحالفاتهم العفنة مع إسلامي المشاطعة (المقاطعة والمشاركة)، وبارونات (إستيراد / استيراد). ولكنهُ في آخر المطاف معذور عن زلّةِ لسانهِ كونهُ ليس له لا حول ولا قوة. أفيعقل أن يصرح مسؤولٌ سياسيٌ على هذا المستوى الرفيع بسذاجةٍ مماثلةٍ؟ فبينما جارتنا تونس تعيشُ دفءَ عُرسِ الديمقراطية، نرى الجزائر مازالت خاضعةً لمطبخةِ صُناعِ القرار، الذين لا نعرفهم ولم نراهم وربما، من يدري، لن نراهم أبدًا. أمرٌ غريبٌ جدًا، لماذا تقع كلُ هذهِ التنازُلات السياسية إذن بعدَ ربيعِ الشعوب ونحن نعرف أنّ النظام مازال مُصِرًا على القول أنهُ لم يقم برسمِ إصلاحاتٍ خوفًا منهُ من حمى وعدوى الجيرانِ الغاضبين؟ إذا كان الأمرُ كذلك، لماذا إذن لم يستجب من ذي قبلٍ للمطالب الملّحة التي تقدمت بها شتى الأحزاب السياسية قصد رفعِ حالةِ الطوارئ؟ أفيعقل القيام غالبًا بإصلاحات سياسيةٍ تحتَ ضغطِ الشارع العربي والمجتمع الدولي وليس قَط عن طواعية وحبٍ صافٍ للوطن؟

الجزائريُ البسيط اليوم تائهٌ، لا يرى الحقيقة جيدًا رغمَ أن الأغلبية الساحقة من المواطنين يتابعون عن كثبٍ التطورات السياسية الحالية في المنطقة العربية. بكلِ بساطة، المواطنُ الجزائري ذكيٌ وواعٍ ويعرفُ جيدًا أنهُ المُختزَلُ السياسيُ الوحيد في المعادلة الرياضية التي لا يعرفُ متغيراتها ومجاهلها سوى أصحاب القرار. إذا لم تكن الحقيقة هكذا، فكيف نُفسر ذهاب وزير خارجية دولةٍ مستقلةٍ منذ 50 سنة وذات سيادة وطنية، سقط عليها ما يقارب مليوني شهيد، لفرشِ الملابس الداخلية للنظام وخبايا مجتمعنا وحيثيات إصلاحاتٍ داخلية فاشلة في الصميم أمام البرلمانيين الفرنسيين؟ أليست هذهِ مهانةٌ وعيبٌ كبيرٌ على السلطة؟ أليس هذا تدنيسٌ لحُرمةِ الشُهداء وقابليةٌ للإمبرياليةٌ والاستعمار الجديد؟ لا نتأسفُ إذنْ على ليبيا إن تدخلت قواتُ الناتو لمد يد العون لثوار مصراطة وبنغازي ومناهضة نظام وكتائب القذافي تحت خلفيةٍ استعمارية! فوضعُ ليبيا مماثلٌ جدًا للجزائر، وللأسف أحسن منهُ بكثير، كون القذافي لم يبعث بوزير خارجيتهِ للتحدث معَ الأوروبيين حولَ قضاياهِ الداخلية، بل بالعكس، أهانَ ساركوزي، ونصّبَ لهُ خيمة في ساحةِ الإليزي الشاسعة، وهذا للذكر، يخالف الأعراف والتشريفات الدبلوماسية المتعامل بها حتى الآن.

الآن ونستهل السنة الجديدة، والخوفُ يُكابِدنا بأغلالهِ كونَنا نرى المخاطر الجمة التي تحومُ حولَ بلادنا من أطماعٍ غربِيةٍ، إمبريالية ومنافقة في نفسِ الوقت، وبطشِ أصحابِ القرار وتبديدهم وإهدارهم للمالِ العام (تعاطي الرشاوي في قضية الخليفة، والطريق السيّار شرق / غرب وكذا الملف الشائك لسوناطراك)، نتسائل إن كان بوِسعِ النُخب السياسية الالتحاق بالركبِ الحضاري للأمم واقتياد سفينة النجاة بعيدًا عن الطوفان، بهدف تفكيك ألغام اليافظة الشعبية، أم ستستمر في هذا الانتحار البطيء الذي يشبه “الأوتنازيا”، ببث البغيضة العقائدية وتأجيج النعرات الجهوية والنرجسية القبلية التي هي للذكر السمة الغالبة على أعلى هرمِ الدولة بالنسبة للنظام الحالي.

بالمختصرِ المُفيد، هل للنظام مشروع سياسي واجتماعي وثقافي بديل على ما كان ينتهجُهُ منذُ جويلية 1962؟ بمعنى هل النظام الحاكم الحالي قادرٌ على إحداث قطيعةٍ تامةٍ عن زمنِ مصادرةِ الاستقلال الوطني الذي تحدثَ عنهُ المرحوم فرحات عباس؟ تُرى، إلى متى سيصبر الجزائريين على الخروج إلى الشارع والمطالبة الحثيثة برحيله؟ ثم هل لم يستوعب بعد أصحابُ القرارِ، درسَ القذافي وهو يساقُ من المجاري كالفأر في المصيدة؟ على كل حال، لا يمكن بتاتًا اجتناب التدخُل السافر للغرب الامبريالي في الشؤون الداخلية لبلدانِ الجنوب ما لم يكُن هناك تعزيزٌ كافٍ وجاد لأُسسِ الديمقراطية الحقة من داخلِ تلكم البلدان. هذا إن دلّ على شيء، إنما يدُلُ على أن الامبريالية والليبرالية هما وجهان لعملةٍ واحدة، وسرطانان متعددا الجوانب والتجليات.

إنّ تجريدَ الخطاب السياسي في الجزائر من الدوغمائية والوصولية والعبثية من شأنهِ تسويةُ جانبٍ من جوانبِ المأساة التي تعيشُها الجزائرُ حاليًا، فمرضُ الخطاب تعدى الحدود وكعكةُ السُلطة أصبحت تُغري الطبقات المثقفة إذْ أصبحَ الريعُ مصدرَ القوة والهيمنة للنظام الحاكم، هذا ما سمح لهُ بإرقاد الحِس الوطني للشعب والتنويم المغناطيسي لبعض الرؤوس المعارضة، على قِلتها، وتصريف المشروع الإسلامي وتدجينُ الصحافة و تقييد العدالة وتمكينِ نفسهِ على الديمقراطية بفضلِ المناوراتِ وبدائل لا تحتملها العقولُ ولا الأخلاق، كمشروع المصالحة الوطنية السخيف، الذي يعتبر كمثابة تبرئة ذمة لأصحابِ القرار ومحو أثرهم من سّجلِ المأساة الوطنية التي عان منها الشعب الجزائريُ قاطبة.. لا ينبغي بتاتًا نسيان ذاكرة الشعب (ضحايا الإرهاب من الطرفين دون استثناء، ملف المفقودين، ملف المرأة والاغتصاب…)، فالتجربة التاريخية أظهرت الدفين من عبقريةِ الشعبِ الجزائري وصمودهِ أمامَ المستدمرِ الفرنسي والأملُ قائمٌ اليوم في أن يتحول هذا المردود والإرث الثوريين إلى حنكةٍ وجرأةٍ سياسية وشعبية على حدٍ سواء، بما من شأنهِ التعجيل بالقيام بالجراحات اللاّزمة في جسد الجزائر المسلوخ وترميم المشروعِ الوطني بهدفِ بناء دولةٍ جزائريةٍ حديثةٍ وعصرية، واستنساخ المكنونات الراسبة في النماذج الحاكمة لأسلافنا وأجدادنا. في نفسِ الوقت، لا ضرر ولا ضرار، إن قمنا باستيراد التجارب الديمقراطية الغربية دون سمومها وعللّها، فطلب العلمُ فريضةٌ حتى ولو في الصين إنْ استدعى الأمرُ ذلك..

كمال قروة
13 يناير 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version