في لسان العرب: سدَحَ الناقة أناخها أ.هـ ، فعليـه: إنسدح الداعية أي أناخه النظام حتى صار بوقا له، وهو – أعني –  إنسداح الدعاة للنظام ثلاثـة أنواع:

أحدهـا: إنسداحٌ تام، وهو الإنبطاح نفسه، أي يتمـدَّد على وجهه، ويكون وجهُـه تلقـاء الأرض لا غيـر، لا يحرّكه أبـدا – حتى ربما يكون النظام آيلاً للسقوط وهو لا يدري ويبقى يدافع عنه مثل البوطـي! – ويداه ممدودتان إلى أقصى مـدى، من جهة الرأس على امتداد الجسد، أمـام النظـام السياسي!

وإليه تنسب الفرقة الإنبطاحية – التي تُعادي الثوارت العربية – وأصولها ثلاثـة:

– تعبيد الناس للطغيان؛
– وتزيين باطل السلطان بشتى أنواع الكذب ، والبهتان؛
– ومحاربة مشاريع الإصلاح بالبلدان.

والثاني: إنسـداح متوسط، وهذا أحيانا يحـرِّك رأسه، ويرفع وجهه عن الأرض قليـلا، ليتأكـّد أنَّ النظام لا يزال ثابتا في مكانه، غير أنـّه لا يصدر منه أي شيء يخالف القصـر، مادام النظام قائـما، حتى يلج الجمل في سمّ الخيـاط.

والثالـث: إنسداح خفيـف، وهذا يرفع رأسه وبطنه قليلا عن الأرض، إذا شعر أنَّ ثمـَّةَ ضوء أخضـر من النظام – بعد ضوء أخضـر أمريكي – فينطق حينئـذٍ بمـا (فتح النظام عليه) مثل: دعم الثورة السورية (في غير سوريـا)!

وتبين لي من خلال الاستقراء أنَّ المنسدحين أنواع:

نـوعٌ مرتزقـة خُلَّـص، فهؤلاء واحـدهم يعلم أنَّ النظام أخبث من نطفة إبليس! وكلّ محاولات الترقيع هي نفاق في نفاق، لكن أعماه بريق الذهب، وحبُّ المنصـب، فهو يرتـع فيما فيه هواه، وإليه همـُّه ومُنتهـاه.

ونوعٌ هـو مـن المرتزقة أيضـا، ولكنه يخادع نفسه بتأويـلات فاسـدة، ولا يُعـدم هذا النـوع من صـوتٍ بين ضلوعـه يتردَّد: إنك يا هذا تخادع نفسك، فلست سوى بوقٍ للظلمة، لولاك لانهار ظلمهم، وذهـب جورُهـم، فأنقـذْ نفسك بالتوبة قبل فوات الأوان.

ولكن قـد أثقل أُذُنـَه عن سماع هذا الصـوت، ما يتمتع به، وغارق فيه، من مزايا وقوفه مع النظام، وما يحبوه من المناصـب، والعطايا، و المال، والهدايـا، ويضعف هذا الصوت كلَّما زيد له في الحبـاء، والعكس بالعكس!

ونوعٌ لا يسترزقون، ولكنهم مساكين، يعانون من خلل حاد في الدوبامين! وهو مرسِل كيماوي في المخ، يؤدي الخلل فيه إلى تأثير سلبي على الانتباه، والأحاسيس، وكذلك إلى اضطراب في مشاعر المتعة، والسعادة!

ولهذا تجد هؤلاء الذين يعانون من خلل في مستويات الدوبامين، ربما يشعرون بسعادة بالغة بكونهم يعيشون تحت الطغيان! ويتمتّعون بتسلّط الظالـم عليهم! حتى ربمّـا تسمع أحـدهم يقول عن الظلمة: “دعوهم يضربون ظهورنا، وينهبون أموالنا، ويطغون علينا، فمهما طغوا، وبـغوا، هم ولاة أمورنـا حفظهم الله وأطال الله لنا في أعمارهـم”! يقولها وهو في سعادة غريبة، ومتعـة عجيبة!

ويُذكـر هنا – والشيء بالشيء يذكر – أنَّ في المرضى النفسيين، نوعـاً غريبـاً، يحبُّون التعذيـب، حتى إنهم يستأجرون من يضربهـم بالسياط، ويشعرون بمتعة غير مفهومة! وربما يكون هذا من خلل الدوبامين أيضا!

ومن مخاطر تأثير الخلل في مستويات الدوبامين في المـخّ على الانتباه والأحاسيس، في هذا النوع من المنسدحين، أنه تراه كالأبله – نسأل الله السلامة – لا ينتبه إلى الكوارث التي تترتّب على السكوت على الطغيان، لاسيما إذا جمع معها الطاغيـة الخضوع للأجنبي والأمريكان، ولا يحسّ بما يقع على الأمـّة من مآسٍ عظيمـة بسبب ذلك!

ويتمّ اكتشاف هذا الاضطراب في الانتباه، والأحاسيس المترتـِّب على خلل الدوبامين بسرعة ووضوح ، عندما تجـد هذا “الداعـية” – وفي مقابل تلك البلادة تجاه الكوارث التي تقع على الأمة بسبب الطغيان – ينتفض انتفاضة الهزبـر على مسائل مختلف فيها بين الفقهاء، ولا نص فيها يقضي في النزاع، فيقـيم الدنيا ولا يقعدهـا بسببها!

ويذكرنا هذا النوع بذاك الذي زنى بامرأة فأحبلها فلما زجره القاضي قائـلاً: هلا إذ زنيت بها عزلت ماءَك! فأجاب: بلغـني يا حضرة القاضي أنَّ العزل مكروه!

ونوعٌ من المنسدحين هم أشبه بالدهماء – الذين على دين ملوكهم – منهم إلى الدعاة، لكنهم يحفظون مواعظ يردّدونها، وقصصاً يكرّرونها في وسائل الإعلام، لتكميل برامج القنوات! ومثلهم أولئك الذين يُلـَقَّنـونَ من النصوص ما لا يفقهون معناه، وآثارا عن السلف لا يفهمون مغزاها، عن الصبر على الجـوْر، فينزلونها على هؤلاء الطغاة الساعيـن لإفساد الأمـّة، وتمزيقها، وإخضاعها لأعدائها!

ونوعٌ استحوذ عليهم شعور كأنـَّه الخوف، لكنه ليس هـو، بل وراءَه بقـدر مـا، ولا يُدرى ما هـو! لأنَّ الخوف مهما عظـُم، لا يبلغ بالإنسان مثل ما فعل هذا الشعور بهم من الخضوع للطغيان الذي مسـخ عقولهم، ونفوسهـم، حتى إنهم ليسمعون من بعيد عن قائم بالحق، فتبرؤون منه قبل أن يُطلب منهم، أو يُدرى عنهم! أما إذا قام سوقُ جهادٍ يحاربه الطغيان متحالفا مع الأمريكان، فلا تسل عن انسداحهم المثير للشفقة، يتمرّغون به في طين الظّلمة تمـرَّغَ الدواب!

والمنسدحون أيضا يرجعون في الجملة إلى نوعين، نوع ظاهر كما بينا، ونوع انسداحه خفيّ، تظهره المحـن، وهذا ربما يبقى قائما نوعا ما حتى إذا جاءته أدنى فتنة إنسدح، كما قال تعالى “ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ”.

هذا.. وإنَّ التريـاق الشافي من داء الإنسداح الظاهر، والخافي، إنما يكمـن في مـزج أربعـة أدويـة مع بعضها:

أحدها: تقوى الله العاصمة من كلّ انحراف، المنيـرة للقلب بنور البصيـرة.

والثاني: الفقه حقَّـا في الدين، وتاريـخ أمـّة المجاهدين، وسيـر العلماء المصلحين.

والثالث: فهم دقيـق لرسالة الإصلاح والتغيير، وللتحدِّيات التي يواجهها الإسلام في هذا العصر، ولمشروع النهضة الذي يرفع الإسلام إلى مستوى هذه التحديات.

والرابع: الاستعداد لتقديم التضحيات من أجل رسالة الإسلام مهما عظمـت، والقبـول بكلّ ثمـن يدفع لتحقيقها على أرض الواقع.

وهذا كلُّه قد يكفـي فيه من النـور ما يوفق الله تعالى إليه من شاء، فيستعمله في نصر الإسلام، كما رأينا شبابا، وشيبا، ونساء، على فطرة الله تعالى، قذف الله في قلوبهم هممَ الأسود، وفهـم الجدود، بصدق تديِّنهم، وحسن نياتـهم، فنجاهم الله من الإنسداح للطواغيت، بينما وقع فيه من حُـمِّلـوا أحمالاً من العلم، فصدق عليهم وصف الله تعالى “كمثل الحمار يحمـل أسفارا”!

وقـد يبلغ به المرءُ مبلغـا يصيـر كالمطـر المغيث للناس، و الشمس المضيئة عند الإلتباس، وما بين ذلك يوفـّق الله تعالى من يشاء، ويستعمل من يشاء، ويختار.

“وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ”.

والله المستعان، وهو حسبنا عليه توكلنا، وعليه فليتوكـل المتوكـلون.

حامد بن عبد الله العلي
22 أوت 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version