لقد هبّت رياح التغيير في العالم العربي مبتدئة ببلد ونظام لم يتوقّع أحد أن يحدث فيه حراك اجتماعي ولو بسيط ناهيك عن ثورة شعبية عصفت بنظام الحكم القائم. تلتها بعد ذلك ثورة في أشدّ وأعرق الأنظمة العربية تماسكًا وتناغمًا مع الغرب. إضافة إلى الثورات التي تلاحقت بعد ذلك في كل من اليمن، ليبيا وسوريا والتي لازلنا نشهد أحداثها إلى اليوم. كما أنّ بعضها أُخمد في مهده مثلما حدث في البحرين.

لقد استبشرت الشعوب العربية خيرًا بما حدث على اعتبار أنه متنفسها الأول بعد كتمان صوتها وهضم حقوقها لسنوات وعقود. لم تر خلالها العيش الهنيء والملاذ الآمن وإن كانت البلاد بلادها والأرض أرضها. ولحد رحل بعض أعمدة النظام في كل من تونس ومصر ولا زالت ثلاث رؤوس أخرى متشبثة بالحكم في كل من اليمن، ليبيا وسوريا.

الملاحظة التي نستقيها من هذه الثورات هي مباركتها من قِبل الغرب ومن قِبل بعض الدول العربية خاصة الخليجية منها إضافة إلى تركيا التي بحسب رأينا تحاول أن تجد لها مكانا في الاتحاد الأوربي من خلال استعمال الورقة العربية والإسلامية. كما نلاحظ أنّ الشعوب العربية لم تلتزم بعد بسقف معين، محدّد وواضح من المطالب التي تؤسّس لبناء دولة عصرية، دولة مواطنة قبل كل شيء.

قراءة عكسية للأحداث

بادئ ذي بدء أؤكد لقارئ المقال أني لست ضد التغيير ولا ضد الديمقراطية ولكن ضد التغيير الاعتباطي واللامسؤول لأنّ نتائجه تكون وخيمة. ولذلك أقول أنّ الثورات العربية وإن كانت أهدافها نبيلة إلا أنّ وسائلها ومنهجها غير سليم أو مضطرب سواء من الناحية الأخلاقية أو من الناحية العملية.

إنّ ما يحدث في العالم العربي عموما ليس اعتباطيا وإنما هو مبرمج مسبقًا من قِبل الدول الغربية وإن كان العامل الزمني قد سرّع من الأحداث واستبق وقوعها بحسب الخطط والبرامج الغربية ولذلك نجد الغرب يحاول أن يحيط بالأحداث من خلال التدخّل المباشر في سيرورة الثورات العربية وإعادة صياغة المشهد السياسي العربي جملة وتفصيلا. ويخطئ من يعتقد أنّ الشعوب العربية ستحكم نفسها بنفسها، لأنّ مسألة الدولة الوطنية أو القطرية لم يعد لها أثر في الفكر القانوني والسياسي وعلى وجه الخصوص الاقتصادي الذي ألغى الحدود فأصبح العالم مفتوحا على بعضه.

ولا أدلّ على ذلك خير من الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالدول الغربية ولا زالت تجني ثمارها. في حين نعاني نحن من آثارها على اعتبار أننا دول غير منتجة وبالتالي تتحكّم فينا السوق العالمية التي تحدّد ميكانيزماتها الدول الغربية.

إنّ الثورات العربية هي في مصلحة الدول الغربية التي ستساعدها في تصريف أزماتها الاقتصادية والسياسية على حسابنا ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:

بالنسبة للأموال المجمّدة فإنّ مسألة استردادها ليست بالأمر الهيّن فإيران مثلًا لم تستردّ أموالها في الخارج بعد الثورة الإسلامية إلى بمرور 20 سنة عن ذلك. في حين أكدّت رئيسة الكونفدرالية السويسرية ووزيرة خارجيتها أنّ اقصر مدّة لاسترداد هذه الأموال هو أربع سنوات ولذلك نقول أنّ اعتمادها لبناء دولة مواطنة في الوقت الراهن أمر مستحيل بل تلجأ هذه الدول إلى الاستدانة وطلب الإعانات الدولية وهذا ما يحدث مع تونس اليوم التي لجأ رئيس وزرائها إلى الجزائر التي قدّمت له فيما نعلم 100 مليون دولار في حين لم تجنِ جولته الخليجية في كلٍّ من قطر والكويت والإمارات أية نتائج بعد. وهو نفس الوضع في مصر.

بالنسبة للوضع في ليبيا فإنّ التدخل الغربي كان هو السبب في استمرار الوضع على ما هو عليه حيث أنّ قصف الناتو لقوات القذافي هو من أمدّ الجانب البنغازي بقليل من الأمل في الاستمرار والتقدّم. لكن السبب في هذا التدخّل هو بعد أن أمسّ القذافي بالمصالح الغربية في ليبيا حيث غرّم الشركة الفرنسية آلف بـ 500 مليون دولار، وخفض الحقوق الاستخراجية للشركات النفطية الغربية إلى 20% بعد إن كانت تتراوح بين 20% و42% إضافة إلى إلغائه لصفقة تسلح مع فرنسا وإبرامها مع روسيا (اقتناء طائرات حربية). ولذلك فإنّ التدخّل الفرنسي والغربي في المنطقة ليس بالبريء.

وبالنسبة لليمن وسوريا فإنّ استمرار تعنّت الأنظمة مع ضعف احتمال التدخّل العسكري الخارجي سيمدّد في عمر الأزمة إلا بوفاة كل من رأسي النظام وهذا مستبعد لأنّ المسألة ليست مسألة أشخاص وإنما الأمر يتعلّق بأنظمة نسقية تقليدية لها امتداداتها الاجتماعية وتتمتّع بقدرة على التكيّف والمراقبة والتحكّم في الأحداث وهو نفس الأمر بالنسبة للقذافي الذي استطاع أن يثبت رغم الدعم الخارجي للثورة.

هل يمكن إحداث تغيير حقيقي؟

اعتذر إن كنت متشائما ولكن القراءة التاريخية للأحداث تقول أنّ التغيير الحقيقي الذي ننشده لن يكون قريبًا. وقد أكّد الأستاذ محمد غانم الصغير المؤرخ الجزائري أنّ ما يحدث بالعالم العربي هو استعمار جديد ولكنه ينفذ بأيادٍ داخلية وأخرى عربية لأنّ الفشل الغربي في أفغانستان والعراق أدّى بهم إلى استبعاد التدخّل المباشر في المناطق الأخرى وإنما سيتمّ الاعتماد على أبناء الداخل وليس الخارج لإحداث التغييرات اللازمة والضرورية.

كذلك نستشفّ من التخبّط الحاصل في كلّ من تونس ومصر أنّ الوضع ليس على ما يرام لأنّ الذين قاموا بالثورة لم تكن لهم إستراتيجية مطلبية وسياسية واضحة بل كان همّهم إزاحة النظام ولكن ما بعد النظام لم يفكّر به أحد لأنّ الحديث بعد رحيل النظام لا يتعلّق بالمطالبة بالحرية والديمقراطية وإنما بكيفية ممارستها وهذا الأمر يختلف زمكانيا. إنّ ما يطالب به بعض المصريين من محاكمة علنية للرئيس السابق وحاشيته وحتى إعدامه ليس بالحل في رأيي فقد أُعدم صدام حسين ولم تتحقّق الديمقراطية ولا دولة القانون والمواطنة. ونفس الوضع ينطبق على أغلب العالم العربي.

و لذلك فإننا لا نريد من الثورات العربية أن تتحوّل إلى تصفية حسابات شخصية ولكن نبقيها في إطارها العام وهو تحقيق المساواة والحرية والعمل والعيش في جوّ قائم على الاحترام المتبادل والأخوّة الصادقة. كما نمنح مزيدًا من الوقت للقائمين على تسيير الأمور حتى يتمكّنوا من ردّ الأمور إلى نصابها ويتمّ الانطلاق في بناء وطن آمن ومستقرّ اقتصاديا اجتماعيًا وسياسيًا.

الجزائر والثورات العربية

المتتبّع للسياسة الجزائرية فيما يتعلّق بالثورات العربية يجدها سياسة محتشمة لا ترقى إلى وضع الجزائر في المنطقة، والتساؤل الذي يُطرح هو لماذا هذا الموقف؟

تعتبر الجزائر ما يحدث في الدول العربية شأنًا داخليًا لا يحقّ لها التدخّل فيه وهي سياسة معتمدة من قِبلها منذ ما يقارب 50 سنة ما عدا ما يتعلّق بحقّ الأخوة. رغم أنّ البعض يريد أن يزجّ برجلها في المستنقع الليبي باتهامها بدعم نظام القذافي ومدّه بأدوات استمراريته. والحقيقة أنّ الجزائر تضرّرت اقتصاديًا وسياسيًا من الوضع في الجهة الشرقية لحدودها. فالمدن الشرقية تعاني من نقص في المواد الغذائية وارتفاع أسعارها نتيجة لتهريبها أو نقلها إلى كل من تونس وليبيا وحتى بالنسبة للبنزين الذي يُنقل لهذه الدول بأسعار مضاعفة. إضافة إلى هذا هناك خطر يتعلّق بعودة العمليات الإرهابية إلى الساحة من خلال تهريب الأسلحة، لكن الأمر الذي ارتكزت عليه العلميات الأمنية في الفترة الأخيرة هي مسألة تهريب المخدرات وبكميات لا تتعلّق بالاستهلاك الداخلي فقط كما كان الوضع في السابق وتعتبر قوات الدرك الوطني أهم مكافح لها ولذلك فهي تُستهدف بقوة تحت غطاء العمليات الإرهابية.

في الجانب المقابل تعتبر أحداث جانفي 2011 بمثابة إنذار لها حتى تهتم بشؤونها الداخلية. كما أنّ الجبهة الاجتماعية لا زالت مشتعلة وعلى النظام السياسي الجزائري إعطاء الأولوية لما هو داخلي. خاصة وأنّ الدخول الاجتماعي على الأبواب والملفات الكبرى لم يتمّ معالجتها بشكل جذري كالتعليم والتربية، السكن، الصحة، وخاصة العمل. ولذلك نعتقد أنّ إخماد الجبهة الاجتماعية سيطر على التوجهات السياسية للدولة الجزائرية.

في الأخير نرجو من الإعلام العربي أن ينقل الواقع كما هو والابتعاد عن استغلال العواطف العربية لأننا نعتقد أنّ عدم الاستقرار الحادث في مصر وتونس وعدم تمكّن الإخوة في كلّ من ليبيا واليمن وسوريا إلى التوصّل إلى اتفاق هو بسبب التأجيج الإعلامي والقراءات السلبية واللاموضوعية للواقع العربي. فلنترك المؤسسات القائمة تعمل على استتباب الوضع. أمّا بالنسبة إلى الاعتماد على الدول الغربية للوصول إلى بناء دولة مواطنة فاعتقد أنه حلم لن يتحقّق بل هي ستعتمد على ما يحدث لدينا لتجاوز أزماتها الاقتصادية والسياسية ولنلاحظ أن ما يحدث لديهم تتكفّل به المؤسسات وليس الشارع وما قضية ماردوخ إلا كمثال على ذلك.

نعيم بن محمد
25 جويلية 2011

تعليقان

  1. Abdelkader Dehbi بتاريخ

    RE: رأي في الثورات العربية
    [rtl]لولا أنني كنت أعلم أنٌ منصب “المفوٌض السيٌاسي” في جبهة التحرير قد ألغيٌ منذ سنين، لكنت اعتبرت هذا الخطاب تسجيلا لكلمة أحدهم بمناسبة مهرجان ما، أقيم بدشرة ما، في يوم ما، عند ما كانت عصابات حجٌار وبلخادم وبلعيٌاط وكلابهم المحترمين، يزحفون على مقرٌات جبهة التحرير، تنفيذا لتعليمات أسيادهم…. ولله درٌوك من إمام، ياشافعي حين قلت : “” وما من كاتب إلا سيبلى و يبقي الدهر ما كتبت يداه، فلا تكتب بكفك غير شيء بسرك في القيامة أن تراه “”[/rtl]

    • نعيم بن محمد بتاريخ

      RE: RE: رأي في الثورات العربية
      أشكركم على قراءة المقال و أذكركم سيدي أن أخوف ما أخافه هو إنصتف التاريخ لبعض الحكام العرب و أذكرك برأي بن بلة بأن الحكام العرب الله غالب عليهم و يحسن عونهم و إن كنت لم أتوقع رأيه في الشعب الجزائري الذي صرح به لمجلة لو جون أفريك.
      في الأخير اذكرك أن عملية المراجعة تؤدي لإعادة النظر في الكثير من الأمور و المواقف
      أشكركم مرة أخرى و دمتم من متتبعي منشورات معهد الهقار الذي أشركهم بدورهم على اتاحة هذا المنبر الحر.

Exit mobile version