الحمد لله وكفى وصل اللهم على النبي المصطفى وبعد..

فإلى أبطال الكرامة والحرية، وأحرار الثورة السورية، في أرض الرباط أرض الشام المبارك، ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)…

وقال أيضا كما في الحديث بإسناد صحيح (ستجدون أجنادا فعليكم بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه وليستق من غدره، فان الله عز وجل قد تكفل لي بالشام وأهله)!

وفي رواية (عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده).

إلى أهل الشام.. الذين ما زال الله يصطفي لهم خيرة العرب، وخيرة أهل الإسلام، حتى غدا معدن خيارهم وأبرارهم، وما زالوا في جهاد مذ كانوا، يدفع الله بهم عن الأمة عدوها، حتى دارت الدائرة على الأمة وعليهم، منذ الحرب العالمية الأولى ومشروع سايكس بيكو الذي قسم أرض الشام أربع دويلات – كما فعل الاحتلال الأجنبي في جزيرة العرب والمغرب – وأقام فيها من يواليه منهم، فصار خمسون مليون من أهل الشام، في سوريا وفلسطين ولبنان والأردن، في ضعف وعوز وفرقة، ولم تعد لهم شوكة في أرضهم، ولا كلمة في شامهم!

أيها الثوار الأحرار في أرض الشام..

إنكم اليوم تستقبلون أياما لها ما وراءها من المجد لكم وللأمة معكم، فهي ملاحم كبرى ستغير وجه تاريخ المنطقة مرة أخرى، وأنتم أهل لها وأقدر عليها بإذن الله تعالى..

على قدر أهل العزم تأتي العزائم … وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها … وتصغر في عين العظيم العظائم

يا أهل الشام إنكم اليوم في أشرف جهاد وأكرمه وأنتم تواجهون وحدكم الطاغوت وعصابته في ثورتكم الشعبية السلمية، حيث تمالأ عليكم العدو الداخلي والعدو الخارجي، فكانت ثورتكم ثورة إنسانية نبيلة كريمة، تماما كما كان صبركم على المحن صبرا جميلا كريما…

فإن تكن الأيام فينا تبدلت … ببؤس ونعمى والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة … ولا ذللتنا للذي ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوسا كريمة … تحمل ما لا يستطاع فتحمل
وقينا بحمد الله منا نفوسنا … فصحت لنا الأغراض والناس هزل

لقد جاءت ثورتكم، بعد عقود من الصبر الجميل على الطغيان والاستبداد الذي أستلب حريتكم، وطمس دينكم وهويتكم، وشرد أشرافكم، وسجن أحراركم، وقتل أبراركم، وقد صبرتم أربعة عقود حفاظا على الشام وسوريا إيمانا منكم بأن ليل الظلم مهما طال لا بد أن ينقشع، وأن الطاغوت مهما أستبد لا بد أن ينخلع، فآثرتم أمن سوريا ووحدتها واستقرارها على حقوقكم وحرياتكم، حتى بلغ الأمر حدا بات الشام كله في خطر داهم، حيث أن الصبر على النظام قد أودى بالإسلام، وأدى إلى ضياع الشام!

أيها الثوار الأحرار إن سر قوتكم هو في وحدتكم ووحدة صفكم، فلا تؤتوا من قبلها بدخول الطاغوت فيما بينكم بالمساومات، وشق صفكم بالصفقات لهذا الفريق أو ذاك، فهذا أول الفشل والوهن، وكما قال تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}!

وإن المحافظة على وحدة الشعب السوري بكل فئاته ومكوناته هي صمام الأمان لقطع الطريق على الفتنة الطائفية أو الدينية أو القومية بين مكونات الشعب الواحد، فهي ثورة الجميع ولصالح الجميع، فليس فيها أكثرية أو أقلية، بل شعب واحد، وهدف واحد، وقضية واحدة، الحرية للجميع، والعدل للجميع، والحقوق للجميع، في ظل حكم راشد، يختاره الشعب، ويسود فيه النظام والعدل، وتصان فيه الحقوق والحريات العامة والخاصة.

كما إن قوتكم في عدالة قضيتكم، وفي سلمية ثورتكم، فمهما حاول النظام جركم إلى الدائرة التي يرسمها ويحسن إدارتها فلا تمكنوه منها، إلا ما يضطر إليه الإنسان دفاعا عن دمه وعرضه وماله، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الشدة، وأن مع العسر يسرا!

أيها الشباب الثوار ..

لقد بلغ النظام آخر مراحله، وهو في النزع الأخير، فلا يغرنكم تظاهره برباطة جأشه، فما ثَمَّ إلا الضعف والخور والانهيار الداخلي، ولا بد من تطوير أداء الثورة بما يناسب هذه المرحلة، من خلال ما يلي :

أولا: الإعلان عن تشكيل جبهة إنقاذ وطنية تمثل كل مكونات الشعب وقواه السياسية ولجانه الشبابية التي تشارك في الثورة في الداخل والخارج لا يستثنى منها أحد أراد المشاركة فيها.

ثانيا: اختيار لجنة وطنية للثورة تمثل الجبهة وتكون ناطقا وممثلا شرعيا للشعب السوري وثورته الشعبية.

ثالثا: الإعلان عن عصيان مدني عام إلى أن يتم تغيير النظام.

أيها الشعب السوري العظيم إنكم في جهاد بل أشرف جهاد، فلا تلتفتوا إلى أضاليل المفتين، وأباطيل المفتونين، ممن باعوا دينهم للطاغوت بعرض من الدنيا قليل، كما جاء في الحديث الصحيح (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)!

فإن لم يكن جهادكم جهادا في سبيل الله وسبيل المستضعفين الذي قال الله فيه {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}، حيث جعل الله الدفاع عن المستضعفين من الجهاد في سبيله..

وإن لم يكن جهادكم جهاد الطاغوت وحزبه الذي أوجبه الله بقوله {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان}، وحذر من الرضا بحكم الطاغوت والتحاكم إليه فقال سبحانه {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}..

قال ابن جرير الطبري في تفسيره (الطاغوت كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان من شيء).

قال الأزهري في معاني الطاغوت (…والجبار العنيد، والظالم الذي لا يبالي ما أتى، يأكل الناس ويقهرهم، لا يثنيه تحرج ولا فرق)انتهى.

أقول إن لم يكن جهادكم هو هذا، فهو إذا جهاد أمراء السوء ممن جاء فيهم قوله صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم (ثم تخلف من بعدهم خلوف أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن..). (مسلم 1/70 ح 50، ومسند أحمد 1/462 بإسناد صحيح على شرط مسلم)

والمقصود باليد هنا القوة، وهذا لا يخالف فيه أحد من الأئمة بما فيهم أحمد بن حنبل الذي كان لا يرى الخروج بالسيف على أئمة المسلمين – على فرض أن النظام السوري له ولاية شرعية في نظر المفتين المفتونين – قال ابن رجب الحنبلي: (وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد، وقد استنكر أحمد هذا الحديث، وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نص على ذلك أحمد أيضا فقال: التغيير باليد وليس بالسيف والسلاح، فحينئذ فجهاد الأمراء باليد، أن يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك، وكل ذلك جائز، وليس هو من باب قتالهم ولا من الخروج عليهم). (جامع العلوم والحكم ص 321)

والمظاهرات السلمية تدخل قطعا في جهادهم باليد واللسان، دون السيف والقتال، لتغيير منكرهم، وإزالة باطلهم، ورفع ظلمهم عن الشعب كله، والأخذ على أيديهم، كما في الحديث (إذا رأت أمتي الظالم فلم تأخذ على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده)، ولا شك بأن تخلي الأمة عن واجبها ومسئوليتها هو من أسباب تسلط الطغاة عليها، وهو العقاب الذي حذرها الله منه!

فإن لم يكن جهادكم من هذا الباب فهو على أقل الأحوال جهاد الدفع عن النفس والمال والعرض والدين، كما في الحديث الصحيح (من قاتل دون دمه فهو شهيد، ومن قاتل دون ماله فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله فهو شهيد، ومن قاتل دون دينه فهو شهيد)، (ومن قاتل دون مظلمته فهو شهيد)، ولا شك بأن الشعب السوري ومنذ أربعة عقود ودمه مسفوح، وأمواله منهوبة، وكرامته مسلوبة، والدفع عن هذا كله مشروع والقتيل فيه شهيد بنص الحديث.

فأنتم في جميع الأحوال بين أعلى أنواع الجهاد وأشرف صور الشهادة وهو جهاد الطاغوت، والشهادة في سبيل الله والمستضعفين، أو أدنى أنواع الجهاد وأقرب صور الشهادة، وهو الجهاد دفاعا عن النفس والعرض والمال والأرض، والشهادة في سبيل ذلك!

أيها المجاهدون الأبرار، والمتظاهرون الأحرار، والشباب الثوار، في كل مدن الشام وقراه، إنكم لا تحتاجون إلى فتاوى المفتين في حق أبلج كضوء الشمس في رائعة النهار، وكما جاء في الحديث (استفت قلبك وإن أفتاك المفتون)، فقد لبيتم نداء الفطرة الإنسانية فضلا عن الفطرة الدينية التي توجب الدفاع عن كرامة الإنسان وحريته ودينه وعرضه وماله ودمه، كما في الحديث الصحيح (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد)، وأنتم تدافعون اليوم عن ذلك كله بثورة سلمية لم تسفكوا فيها دما حراما، ولم تظلموا إنسانا، بل دماؤكم منذ أربعة عقود مهدورة، وحقوقكم مسلوبة، وأموالكم منهوبة، وأنتم صابرون على مواجهة جرائم الطاغوت بسلميتكم وتسامحكم وتساميكم على جراحكم حفاظا على بلدكم ونجاح ثورتكم، فهنيئا لكم المجد في الدنيا، والشهادة والخلود في الآخرة!

وأما ما صدر عن بعض أدعياء العلم في الشام من تجريم المظاهرات، أو الحكم على الشهداء بأنهم قتلى فتنة وجاهلية، وأن دياتهم على من غرر بهم، فهو كلام جاهل بأصول الدين وفروعه، وكما في الصحيح (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور العلماء، وإنما يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فأفتوهم فضلوا وأضلوا)!

وقد فصلت أحكام الشهداء في مقال (الأحكام الفقهية لشهداء الثورة العربية)، وفي مقال (شهداء الثورة بين جرائم الطغاة وفتنة الدعاة)..

وقد نقلت فيهما اتفاق أهل العلم على أن المقتول ظلما شهيد، وإن اختلفوا هل هو كشهيد المعركة فلا يغسل ولا يصلى عليه، أم كشهيد الغريق والحريق، يحكم له بالشهادة إلا إنه يغسل ويصلى عليه..

هذا مع أن ما يجري اليوم في الشام حرب يشنها الطاغوت بكل أنواع الأسلحة على الشعب السوري المظلوم، فالقتيل فيها شهيد معركة بلا خلاف!

وأما ما يثيره بعضهم من شبهة أنه لا يقال عنهم شهداء احتجاجا بتبويب البخاري في صحيحجه (لا يقال فلان شهيد)، فقد أجاب عنه شراح الحديث، كالحافظ ابن حجر وغيره، بأن المقصود لا يقال ذلك على سبيل القطع له بالجنة، أما على سبيل الظن الظاهر والحكم الدنيوي فمشروع وجائز، كما تواترت به النصوص الأخرى، وما زال أهل الإسلام يسمون قتلاهم شهداء لا يغسلونهم ولا يصلون عليهم، لأنهم شهداء في الحكم الدنيوي، ويرجون لهم الجنة في الحكم الأخروي، فكل من أكرمه الله بسبب من أسباب الشهادة التي ثبتت بالنصوص الصحيحة، فإنه يطلق عليه وصف الشهادة، دون القطع له بالجنة، بل يحكم له بالشهادة الأخروية على سبيل الرجاء والظن الظاهر.

أيها العلماء المصلحون والفقهاء المجاهدون..

إن الثورة هي أول خطوة على طريق الإصلاح والتغيير، وما بعد الثورة أبعد شقة، وأشد مشقة، وهو ما يحتاج منكم وأنتم لذلك أهل إلى رؤية علمية، وروية عملية، يكون فيها فقه المقاربات وفقه النوازل هو قطب الرحى في تحقيق الإصلاح على هدى الكتاب والسنة!

وإن الأمة كلها تتطلع اليوم فيما تتطلع إليه، بعد عقود من الفوضى والتيه، إلى بعث الإسلام واستئناف الحياة به من جديد، وهي في شوق لنور هداياته، كما قال تعالى {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}، وإلى عدله وقسطه {قل أمر ربي بالقسط}، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، وقال (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي)، وقال (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور)..الخ

وربما حال دون مشاركة كثير من أهل العلم والصلاح في الثورة كونها لم ترفع شعار الإسلام، مع أنها لا تحتاج لذلك ما دامت الثورة مشروعة، وهي جهاد، وقتيلها شهيد، فالواجب على أهل العلم والفضل المشاركة فيها، والدعوة إلى ما يرونه من الحق والعدل الذي يؤمنون به، لا اعتزالها واعتزال الأمة في جهادها، ثم تمني قيادتها والاشتراط عليها، فإن لله سننا لا تتخلف، فالغنم بالغرم، ومن زرع حصد، ومن اعتزل قعد، وستمضي الأمة في طريقها، وستسلم أمرها لمن قادها نحو الخلاص ونحو الحرية، وقاتل معها وقاتل دونها..

فالواجب على علماء الشام ودعاته وأهل الصلاح والفضل القيام بالواجب الشرعي والجمع بين الجهاد وقيادة الأمة في مواجهة الطاغوت، والعلم بهدايات الكتاب والسنة في باب سياسة الأمة بالعدل والقسط، فإنه ما لم يكن هناك معرفة علمية عميقة بأصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي، فلا يمكن قيادة الأمة بهداية الكتاب ونور السنة، ولا يمكن تحقيق المقاربة بين الخطاب الإسلامي والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي، الذي أفسده النظام فسادا ليس من السهل إصلاحه، إلا لمن أوتي فهما في أصول الخطاب السياسي الراشدي وكلياته ومقاصده، وفهما في الواقع السياسي ومشكلاته وتعقيداته، فمن أخذ الكتاب بقوة العلم، وتصدى للواقع بقوة الإرادة والحزم، كان أحرى بالتوفيق والسداد..

أيها العلماء الأخيار..

إن أسعد علماء هذا العصر حظا من أحيا سنن النبوة في الحكم وسياسة الأمة، وهو من التجديد في الدين، كما في الحديث (من أحيا سنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، والمقصود أصلا بالسنة هنا سننه في الإمامة، وهي التي عطف عليها سنن الخلفاء الراشدين (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، وإياكم ومحدثات الأمور)، وهي المقصودة بحديث (يكون أمراء لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي) أي سننه في باب الحكم والإمامة، وهي تلك المحدثات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التحذير منها، كما في حديث (ثم يكون ملكا عضوضا ثم ملكا جبريا) (ثم يكون الطواغيت)، ثم بشر بعدها بعودتها خلافة على نهج النبوة!

أيها العلماء المصلحون..

إن الواجب على أهل العلم في هذه النوازل الدعوة إلى بعث الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي، وما جاء به من العدل والحرية والحق، والقسط والرحمة بالخلق، كما قال تعالى {قل أمر ربي بالقسط}، وقال {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}..

فالواجب معرفة القسط وإحياء سنن النبوة والحكم الراشد حسب الإمكان بالعلم بها وتعليمها، والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، والتبشير بها وبعودتها من جديد، ثم عرضها على الأمة كمشروع سياسي للحكم الراشد، وقد اجتهدت في جمع تلك الأصول والسنن في كتاب (الحرية أو الطوفان)، وكتاب (تحرير الإنسان دراسة في أصول الخطاب القرآني والنبوي والراشدي)، وكتاب (الفرقان)، وكتاب (نحو وعي سياسي راشد)، ومقال (من الحكومة الراشدة إلى الخلافة الراشدة) وغيرها من الدراسات في هذا الباب..

ولا شك بأن العلم بسنن الرشد في باب الحكم وسياسة الأمة لن يكون كافيا وحده، ما لم يصبح ذلك مشروعا سياسيا يؤمن به ويحمله سياسيون محنكون، ومصلحون مخلصون، يعرفون الواقع والممكن لهم فيه، والسنن وأصولها وفروعها، والأحق منها بالتقديم، على نحو يجمع ولا يفرق، ويقيم ما أمكن من العدل، ويبطل ما أمكن من الجور، بحسب المقدور، فقد قطع الطاغوت شوطا في كل بلد في تغريب الأمة وتضليلها وإفساد واقعها، وقد قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لوالده الخليفة الراشد عمر – كما في رواية أحمد في الزهد بإسناد صحيح – (يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك! قال يا بني إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج منه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه).

وفي رواية المروزي في كتاب السنة (يا أمير المؤمنين ألا تمضي كتاب الله وسنة نبيه؟ والله ما أبالي أن تغلي بي وبك القدور! فقال له يا بني إني أروض الناس رياضة الصعب أخرج الباب من السنة فأضع الباب من الطمع! فإن نفروا للسنة سكنوا للطمع! ولو عمرت خمسن سنة لظننت أني لا أبلغ فيهم كل الذي أريد، فإن أعش أبلغ حاجتي، وإن مت فالله أعلم بنيتي).

وعند أبي نعيم في الحلية (يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غدا إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة لم تحيها؟ فقال: له يا بني أشيء حملتكه الرعية إلى، أم رأي رأيته من قبل نفسك؟ قال: لا والله ولكن رأي رأيته من قبل نفسي، وعرفت أنك مسئول فما أنت قائل؟ فقال له أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيرا، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير! يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون من أن يهراق في سبي محجمة من دم، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيى فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين).

وفي رواية أخرى عند أبي نعيم في الحلية قال له (ما يمنعك أن تنفذ لرأيك في هذا الأمر؟ فوالله ما كنت أبالي أن تغلى بي وبك القدور في إنفاذ الأمر! فقال عمر إني أروض الناس رياضة الصعب، فان أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منيتي فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف).

فهذا ما قاله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في القرن الثاني، في شأن إحياء سنن العدل والرشد في الحكم وسياسة الأمة، وإبطال البدعة والجور في هذا الباب، فكيف بأحوال الأمة اليوم!

ولهذا فالواجب الإصلاح السياسي بحسب الإمكان، كما في قول النبي شعيب {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}، قال الشيخ السعدي في تفسيره لها، والفوائد التي تستفاد منها (ومنها‏:‏ أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة‏، وحقيقة المصلحة، هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية‏، ومنها‏:‏ أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه، وفي غيره، ما يقدر عليه) انتهى كلام السعدي.

ولهذا لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم وهم في مكة عن الدعوة إلى كل عدل وخير وبر، ومن ذلك قصة الأراشي – كما في السيرة – وكان رجلا غريبا عن مكة، وكان له عند أبي جهل حق، وقد رفض أبو جهل أن يرد عليه حقه، فجاء يشتكي لقريش فأشاروا عليه أن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه مشى معه صلى الله عليه وسلم حتى ضرب باب دار أبي جهل وهو (فرعون هذه الأمة) كما في الحديث، وقال له أعط الرجل حقه! فارتعد منه أبو جهل ودفع إليه حقه!

فلم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدفاع عن المظلوم وإقامة العدل، بدعوى أنه في مكة، ولا شوكة له فيها، أو أنه لا بد من حكومة إسلامية، أو أن الطاغية لا يؤمر بإصلاح، ولا ينهى عن فساد حتى يؤمن!

وكذا قال صلى الله عليه وسلم (شهدت في بيت عبد الله بن جدعان حلفا – وكان على نصرة المظلوم – لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)!

وهذا يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل على التزامه بهذا الحلف وهو في مكة قبل قيام الدولة الإسلامية، وكذا في المدينة بعد قيامها.

والمقصود أن الأمة لا تتعطل عن الإصلاح في كل مجال، وفي كل بلد، حسب استطاعتها، فتدعو إلى العدل، وتأخذ على يد الظالم، وتسعى لتحقيق المساواة، وإصلاح شئون حياتها..الخ.

فأعظم الإصلاح وأفضل المصلحين من عمل من أجل إقامة (الخلافة الراشدة) في الأمة كلها، ثم من عمل من أجل إقامة (الحكومة الراشدة) في أي بلد من بلدان المسلمين، ثم من تصدى لتحقيق أي إصلاح ولو جزئي، في أي بلد إسلامي بأي وسيلة مشروعة تحقق الإصلاح سلمية كانت أو ثورية، دستورية كانت أو جماهيرية، بحسب الظرف المحيط به.

ولا يقتصر ذلك الإصلاح على الأمة في دار الإسلام، بل وحتى في غير دار الإسلام، فللمسلمين في كل بلد، أن يدعوا إلى الإصلاح والعدل والخير والبر، والاستعانة بأقوامهم وعصائبهم وتجمعاتهم على تحقيق الإصلاح، كما قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله {ولولا رهطك لرجمناك} وأنه يجوز للمسلمين في غير دار الإسلام أن يؤيدوا قومهم في إقامة أنظمة الحكم الجمهورية الديمقراطية، لما يتحقق لهم فيها من عدل وصلاح، بخلاف أنظمة الحكم المستبدة الدكتاتورية!

قال السعدي في تفسيره (ومنها‏:‏ أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يعلمون بعضها‏,‏ وقد لا يعلمون شيئا منها، وربما دفع عنهم، بسبب قبيلتهم، أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان‏، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم‏، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة) انتهى كلام السعدي.

وهذا هو السبب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بالهجرة للحبشة – ولم تكن دار إسلام بل كانت دار سلم وأمن – لما فيها من عدل!

والمقصود أنه إن استطاع المسلمون في بلدانهم إقامة العدل والقسط الذي جاء به الإسلام في ظل خلافة راشدة وأمة واحدة، فهذا هو الأصل الذي يجب على الأمة السعي من أجل إقامته، وهو الذي بشر بعودته النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يستطيعوا في هذا العصر إلا إقامة حكومات راشدة في أقطارهم الوطنية، أو في بعض بلدانهم، فهذا هو الواجب على من استطاع ذلك منهم في تلك الأقطار، كما في الحديث الصحيح (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).

فإن لم يقدروا لا على خلافة راشدة عامة، ولا على حكومة راشدة خاصة، بسبب ضعفهم وعجزهم، وقوة عدوهم، واستطاعوا مع غيرهم من أقوامهم إقامة ما يمكن من العدل والقسط في ظل حكومة عادلة، فهذا هو الواجب في حقهم، كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/322 (فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى : الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة)!

وقال أيضا في 6/340 (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم – أي المعاصي والفجور – أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة! ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم) فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة).

ولهذا لم يشكل على علماء الأمة في أوائل القرن الماضي ضرورة الإصلاح بكل وسيلة مشروعة، حتى بعد سقوط الخلافة والحكم الإسلامي، وقيام الدول القطرية بدساتيرها الحديثة، وفرقوا بين الدساتير التي هي عقود تجري علها أحكام العقود بجوازها، وبطلان الشروط الفاسدة منها، والقوانين الوضعية التي تخالف أحكام الشريعة لكونها أحكاما يلتزم بها القضاة فيحرم العمل بها، وقد كان العلامة القاضي الشرعي والمحدث المجتهد الشيخ المصري أحمد شاكر السلفي من أوائل فقهاء الأمة الذين أدركوا الفرق بين الدستور والقانون، وأجاز العمل السياسي البرلماني لتحقيق الإصلاح، حيث يقول عن القوانين الوضعية التي تصادم أحكام الشريعة (القضاء في الأعراض والأموال والدماء بقانون يخالف شريعة الإسلام، وإلزام أهل الإسلام بالاحتكام إلى غير حكم الله، هذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة)! (حاشية تفسير ابن جرير بتحقيق آل شاكر 2/348)

بينما يقول في رسالته (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر) – التي كانت في الأصل محاضرات ألقاها على رجال القانون في مصر في أربعينيات القرن الميلادي الماضي – (سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السلمي، أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها للبرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب، ثم نفي لقومنا بما وعدناهم به من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة..). (ص 28 – 35)

فهنا يفرق الشيخ بين التحاكم إلى القوانين الوضعية التي هي كفر بواح وردة جامحة، وقد نص على ذلك في كثير من مؤلفاته، وفي المقابل يدعو إلى الالتزام بالدستور، والاحتكام إلى الشعب المصري، والإصلاح من خلال العمل السياسي السلمي الدستوري، ومن خلال الانتخابات، ودخول البرلمانات؟!

وما ذكره الشيخ أحمد هنا يكاد يوافقه عليه كافة علماء عصره ودعاتهم كالشيخ حسن البنا وقبلهما رشيد رضا وشيخ الإسلام مصطفى صبري وغيرهم من المصلحين!

والمقصود أن مثل هذه النوازل والمشكلات يجب على علماء الأمة التصدي لها، والاجتهاد فيها، ولا تمنع تعقيدات الواقع علماء الأمة من الخوض في غمارها على بصيرة وفقه، وإنما يعتزلها رجلان رجل لم يؤت فهما في هذا الباب فهو يخشى على دينه، فيدع الدنيا يسوسها الطغاة وأهل الباطل بباطلهم، أو رجل آتاه الله فهما فيه ولم يؤت عزيمة وإرادة، كما قال عمر الفاروق (اللهم إني أشكي عجز التقي الثقة، وجلد الفاجر)!

فالله الله يا علماء الشام وأبراره لا تؤتى الثورة اليوم من قبلكم، ولا تتخلفوا عن المشاركة في قيادتها، فإن الله وعدكم بالنصر إن نصرتموه، وأنتم أحق من نصره..

فاللهم انصر المرابطين الصابرين بأرض الشام، وأنزل عليهم سكينة من عندك، وثبت أقدامهم، واربط على قلوبهم، واشرح صدورهم، ويسر أمورهم، وعجل لهم نصرهم، ولا تكلهم إلى أحد سواك..

اللهم واخذل عدوهم ومن خذلهم، واجعل كيدهم في نحورهم، وألق الرعب في قلوبهم..

اللهم واجمع كلمة أهل الشام، وارفع رايتهم، وحقق لهم غايتهم، واجعل مستقبل أيامهم خيرا لهم مما مضى، وارحم شهداءهم، وأغن فقراءهم، واجبر ضعفاءهم..

اللهم آمين آمين والحمد لله رب العالمين..

د. حاكم المطيري
المنسق العام لمؤتمر الأمة
الجمعة 14 شعبان 1432 هـ، الموافق 15 يوليو 2011م

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version