عنوان هذا المقال جاء على لسان عبد العزيز بوتفليقة في احد خطبه بمدينة قسنطينة، حيث هاجم فيه فرنسا على جرائمها في الجزائر، ومن هذه الجرائم الجانب الثقافي واللغوي، حيث وصف هذه الجرائم بتدمير هوية الشعب الجزائري. قد يكون هذا الكلام صحيحا في تلك الحقبة المظلمة من الاحتلال ولكنه اليوم في عهد بوتفليقة أقبح وأشنع، فالانتشار الواسع الذي عرفته اللغة الفرنسية في الجزائر في عهد الاستقلال أكثر بكثير مما كان في زمن الاحتلال وقد ساعد حكام الجزائر على هذا الانتشار الذي أصبح يهدد بالفعل الهوية الوطنية.

كل دساتير الجزائر تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية للجزائر، وكذلك كل الأدبيات والوثائق الرسمية وقوانين الدولة الجزائرية، ولكن في الواقع لا شيء من كل ذلك.

تبقى الجزائر البلد الوحيد في العالم الذي لا يحترم قوانينه ودستوره بل وتعمل حكوماته على طمس معالم كيانه الثقافي واللغوي وجر البلد إلى مستعمرته السابقة وبميزانية الدولة الجزائرية، وإلا فما معنى إقامة سنة كاملة ثقافية بفرنسا وما هي الفائدة المرجوة منها؟ حتى أن بعض المفكرين والصحافيين الفرنسيين علق على هذه السنة بالقول بضاعتنا ردت إلينا.

يتحمل عبد العزيز بوتفليقة الجزء الأكبر من هذه المأساة وتبذير المال العام في نشر ثقافة ولغة المحتل. إن الأموال التي صرفت على هذه السنة الثقافية الفرنسية تكفي لبناء أحياء سكنية كبيرة لشعب يسكن الأكواخ والمغارات. سوف أستعرض في هذه المقالة بعض المواقف التي عشتها وسمعتها عن موقف عبد العزيز بوتفليقة من اللغة العربية.

يعتبر عبد العزيز بوتفليقة من أهم أركان النظام العسكري الجزائري الذي قاد انقلاب عام 1965، بل قد يكون هو الرجل الثاني في النظام، كما صرح هو نفسه بذلك لقناة الجزيرة، وكان له تأثير كبير على الرئيس الراحل هواري بومدين. عام 1976 طرح هواري بومدين على الشعب الجزائري مشروع ما سمي آنذاك بالميثاق الوطني لمناقشته وإثرائه ليكون المرجع الأساسي لنظام الحكم المتجدد ومحاولة إعطائه شرعية شعبية في إطار الحزب الواحد، قبل هذا الوقت عاش الشعب الجزائري منذ الاستقلال ضمن إطار حديدي وقمع لكل من يخالف هذا النظام.

إذن طرح هذا المشروع للمناقشة العامة عبر وسائل الإعلام ونقل التلفزيون المناقشات على الهواء مباشرة، ووجد الشعب فرصته ليعبر عن مكنونات صدره وأسمع صوته لمن في أذنيه صمم، وشارك المثقفون وكل أطياف المجتمع الجزائري في النقاش وقد حضرت وأنا شاب بمدينة قسنطينة إحدى هذه المناقشات بمقر المجلس الشعبي البلدي ورأيت عمق الجزائر الحقيقي في تدخلات رجالها ونسائها. وممن رأيتهم وسمعت لهم في هذه الجلسة المتلفزة المرحوم الأستاذ سعدي الطاهر المشهور باسم الطاهر حرات مدير ثانوية بن باديس بقسنطينة، وهو مجاهد ومثقف وصاحب رأي ورجل شهم يقول الحق ولا يخاف لومة لائم، وممن سمعت لهم في هذا النقاش أيضا الأستاذ المفكر الفيلسوف الصادق حماني، رحمه الله، مدير ثانوية المكي حيحي بقسنطينة الذي دافع بكل قوة عن عراقة الجزائر وأصالتها العربية الإسلامية.

استمرت هذه المناقشات مدة طويلة ربما تزيد عن الشهر، اشتمل المشروع على عدة محاور اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية، وتركزت المناقشات على موضوع التعليم والتربية الوطنية. كانت المنظومة التربوية آنذاك تشتمل على نوعين من التعليم، تعليم عام تابع لوزارة التربية، وتعليم ديني تابع لوزارة الأوقاف. وهنا أود أن افتح قوسين لأقول انه إذا كانت هناك حسنة من حسنات نظام الرئيس احمد بن بله فهي هذه أي التعليم الديني. وقد مر التعليم الديني في الجزائر بمرحلتين:

المرحلة الأولى في عهد المرحوم توفيق المدني وزير الأوقاف، حيث كانت المعاهد الإسلامية منتشرة في كل الولايات الخمس عشرة القديمة وبعض المدن الأخرى، والبرنامج المطبق في هذه المعاهد هو نفس البرنامج المطبق في المعاهد الأزهرية بجمهورية مصر العربية، وبصفتي من طلاب هذه المعاهد أتذكر جيدا أن أسئلة الامتحانات كانت تأتي مطبوعة من الأزهر الشريف، والمدرسون كلهم أزهريون بعمائمهم ولباسهم الأزهري وكان مستواهم العلمي عاليا.

المرحلة الثانية في عهد المرحوم الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم، ولما تولى المرحوم الوزارة غير اسمها، حيث أصبحت تسمى وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، وأدخل عليها تغييرات جوهرية سواء من حيث الهياكل المادية أو البشرية فقد تم في عهده بناء عشرات الثانويات ذات الطابع المعماري الإسلامي المميز، وتم تجهيزها بتجهيزات حديثة كالمختبرات وكذلك التجهيزات الرياضية وغيرها من المرافق.

أما برنامج التعليم فقد تغير، حيث أصبح البرنامج المطبق هو البرنامج الجزائري التابع لوزارة التربية زيادة على العلوم الشرعية الإسلامية.

التحق عدد كبير من أبناء الجزائر بهذه المعاهد والثانويات التي تدرس المواد الحديثة زيادة على العلوم الإسلامية في نفس الوقت، وكانت تجربة رائدة تركت أثرا طيبا في أوساط الشعب الجزائري، خاصة أن الدفعات الأولى من خريجي هذه الثانويات التحقت بالجامعة وبرهنت على كفاءتها ومستواها العالي مقارنة بغيرها من دفعات خريجي الثانويات العامة.

لم يقتصر اهتمام الأستاذ مولود قاسم بالتربية والتعليم فقط، بل كان هناك اهتمام خاص بملتقيات الفكر الإسلامي التي أسسها المرحوم مالك بن نبي، والتي اختار لها ملتقى التعرف على الفكر الإسلامي وكان يعقدها لطلبته واتباعه كل عام.

وابتداء من الملتقى الخامس تبنت وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية هذه الملتقيات وطورتها وأعدت لها ميزانية كبيرة، وصار يحضرها الآلاف من طلبة المعاهد والثانويات والجامعات ويحضرها مئات العلماء من مختلف أنحاء العالم حتى صارت منتدى دوليا، وقد ساهمت هذه الملتقيات في نشر الوعي والثقافة الإسلامية المعتدلة.

في هذا الجو المشحون بالعلم والثقافة الإسلامية شهدت الجامعات الجزائرية حركة نشيطة تطورت إلى صراعات بين الايديولوجية الإسلامية الأصيلة والايديولوجية الغربية واليسارية، وقد أبلى طلاب معاهد التعليم الأصلي بلاء حسنا في هذا الصراع الذي تطور إلى مصادمات عنيفة، وقد عشت هذه المرحلة، وانا طالب بمعهد الحقوق والعلوم الإدارية بجامعة قسنطينة، حيث واجهنا كتائب حزب الطليعة الاشتراكية وأنصارهم من المتغربين المدعومين ببعض الإطارات، وعلى رأسهم مدير الجامعة عبد الحق برارحي. وفي هذه المرحلة بدأت بوادر نشوء حركة النهضة بقيادة عبد الله جاب الله وحركات أخرى، وأتذكر أن هذه المصادمات أصيب فيها عدد كبير من الطلبة، ومن بين الذين أصيبوا وأدخلوا المستشفى الأخ سعد جبار الذي كان في صفوف الوطنيين المنادين بتعريب التعليم العالي، والحمد لله فقد أتت هذه الضغوط نتائجها حيث تم تعريب كلية الحقوق نهائيا وكذلك العلوم الاقتصادية والعلوم الإنسانية بصفة عامة.

نتيجة لهذا الحراك المميز طالب الشعب الجزائري المشارك في مناقشات مشروع الميثاق الوطني بضرورة توحيد التعليم في الجزائر على أن يكون على نمط التعليم الأصلي الذي أثبت نجاعته وأعطى ثمارا جيدة، سواء من حيث المستوى التعليمي العالي أو من حيث معرفة الأجيال بدينها وحضارتها والمحافظة على أصالتها.

بعد الانتهاء من هذه المناقشات شرعت السلطة في تطبيق ما جاء في الميثاق ومنها تغيير الحكومة، حيث أكد لي مصدر مقرب من المرحوم مولود قاسم أن الرئيس بومدين أبلغ مولود قاسم بأنه سيكون وزيرا للتربية لتطبيق اختيار الشعب وليكمل مشروع التعليم الأصلي.

في هذه الفترة الحرجة تحركت ذيول فرنسا وأجهضت تعيين مولود قاسم وزيرا للتربية، ويضيف نفس المصدر أن عبد العزيز بوتفليقة هو من وقف بقوة ضد تعيين مولود قاسم في هذا المنصب ونصب مكانه مصطفى الأشرف المعروف بمعاداته للغة العربية، وفي وزارة التعليم العالي نصب وزير آخر مفرنس نسيت اسمه وهو الآن مستشار بوتفليقة وهو من مدينة تلمسان.
أصيب الشعب الجزائري بإحباط لهذا التلاعب بإرادته، ويضيف نفس المصدر أن الأستاذ مولود قاسم حاول أن يحتج ولكنه هدد بسجن الحراش، كما ذكر لي هذا المصدر، وهكذا دجن التعليم في الجزائر وألغي التعليم الأصلي وأدمج في التعليم العام.

وعلى الرغم من كل المؤامرات إلا أن التعليم عرف بعض التطور في عهد الشاذلي بن جديد، باستحداث نظام المدرسة الأساسية خاصة في عهد مصطفى خروبي ومن بعده الأستاذ علي بن محمد. وفي عهد بوتفليقة تقهقرت المدرسة الجزائرية من جديد، بسبب إعادة النظر في برامجها حيث عهد بوتفليقة إلى لجنة بن زاغو هذه المهمة التي أرجعت لنا تعلم اللغة الفرنسية ابتداء من الصف الثاني، وهو تدمير حقيقي على حساب اللغة العربية التي أصبحت غريبة في بلادها. أما خرقه للدستور والحديث باللغة الأجنبية في الداخل والخارج وجر الجزائر إلى المنظمة الفرنكوفونية فهذه تحتاج إلى مقال آخر.

إبراهيم فيلالي
12 أبريل 2011

تعليقان

  1. مسلمة مثقفة بتاريخ

    RE: بوتفليقة وتدمير الهوية الوطنية الجزائرية
    اللغة العربية لغة ميتة لأنها لا تصلح في مجال العلوم و البحث العلمي لماذا أتقيد بها و هي ليست مصدرا للدراسات الجادة في جميع الميادين إبقوا ياعرب في الحضيض تبحثون عن العروبة في حين الفرنسيين بحد ذاتهم أصبحو يتأثرون باللغة الإنجليزية و يستعملونها بشكل واسع لأنهم متيقنون أنها أكثر خدمة لهم في المجال المعرفي، لما يتمكن العرب من استبدال http://www.بحروف عربية و نصل إلى رابط و موقع على الشبكة العنكبوتية سوف أستغني عن اللغات الحية.

    • عجمي متعلم بتاريخ

      RE: RE: بوتفليقة وتدمير الهوية الوطنية الجزائرية
      [quote name=”مسلمة مثقفة”]اللغة العربية لغة ميتة لأنها لا تصلح في مجال العلوم و البحث العلمي[/quote]
      بل الانحطاط الحضاري للمنتسبين (إحصائيا) لللغة العربية ومستواهم المعرفي الدنيء (ولو ادعوا التثقف) هو الذي يمنعهم من استعمال لغتهم في الميدان العلمي…

      لا ذنب لللغة العربية بل العيب عيب البشر، لا ترمي اللغة بعيوبك… أنتي الميتة وليس اللغة…

      اللغة العربية أثبتت جدارتها لما كان أهلها في المستوى ومازال الاصطلاح العلمي الحديث يحمل آثارها. ولما يتمكن العجم من استبدال 1 2 3 بالحروف الانجليزية أو الفرنسية أو اليابانية سنستسلم للغة المتفوق ونمسخ ثقافتنا ونستغني (والعياذ بالله) عن اللغة التي اختارها خالق الكون صبحانه لمخاطبة العالمين.

Exit mobile version