من عاش الثورة ليس كمن قرأ عنها في الكتب والمجلات، ومن عاش الأزمة ليس كمن سمع عنها، ومن تضرّر منها ليس كمن استفاد منها، ومن كان معارضا لسياسة النظام منذ الانقلاب على الإرادة الشعبية وقبلها، ليس كمن تواطأ على إرادة الشعب وأراد فيما بعد أن يلعب دور الضحية، ويُسوّق نفسه على أنه مُعارض، ومن دخل البرلمان على حساب جثث الأبرياء، ليس كمن أُقصِي، ومن دخل السجن ورُمي به في معتقلات الصحراء وضُيّق عليه، ليس كمن يقيم ندواته في فندق الأوراسي وعلى الشواطئ الذهبية، ومن يزور أوربا وأمريكا للفسحة، ليس كمن هو ممنوع من أبسط حقوقه المدنية، ومن يدفع الثمن كل يوم ليس كمن يتاجر بتضحيات الناس عبر جمعيات أو أحزاب أو قنوات فضائية، ومن يُطالب بالانفصال علنا من داخل الحرم الجامعي ليس كمن يحرص على الوحدة الوطنية، ومن يتحدث بلغته ليس كمن يتحدث مع شعبه بلغة أجنبية، ومن هو أصيل يحافظ على تقاليده ومعتقداته ليس كمن هو دخيل يعمل على إدخال معتقدات وتقاليد الآخرين بالعمالة…

الناظر والمتتبع لكرونولوجيا الأحداث يدرك جيدا بأنّ هناك من دفعوا ثمنا باهظا أثناء الثورة وخلال هذه الأزمة الأخيرة، من تعذيب وتشريد وتهميش واعتقال ونفي واختطاف وتوقيف عن العمل… وهناك من استفادوا من هذه الثورة والأزمة، بالتواطؤ المُعلن مع المستعمر ومع الانقلابيين فيما بعد تارة، أو بالسكوت تارة أخرى.

الواضح أنّ هناك أقلية أرادت أن تتلاعب بالتناقضات وأن تقوم بدور النمّام الذي يأكل مع الجلاّد ويتباكى مع الضحية، والواضح أيضا أن هناك تواطأ دوليا لإضعاف دور الجزائر إقليميا ودوليا، ومساندة جهات للاستيلاء على الحكم من خلال إبعاد الشخصية الوطنية وجعل الجزائريين جسدا بلا روح.

الواضح كذلك أنّ هناك من استولوا من الانتهازيين والوصوليين ووصلوا إلى صناعة القرار على حساب تضحيات الشعب، وأرادوا تسويق واجهة مغلوطة طعنا في الثورة وطعنا في التاريخ من خلال استعمال جبهة التحرير الوطني كغطاء لمخططاتهم، وإفراغ محتواها، حيث أصبح المواطن الجزائري لا يقيم وزنا للأعياد الوطنية… ولا لمشاريع أخرى، لأنّ الممارسات التي يلمسها على أرض الواقع ليست كالشعارات المرفوعة.

لأنّ من يحكمون حقيقة الجزائر هم من وراء الستار، فيدفعون أناسا للقيام بمهمات، ويعتقد أصحاب النوايا الصادقة منهم، أنهم يقومون بذلك خدمة للوطن وخدمة للشعب، وأنّ من أوكلوهم هم خدام للشعب، ولكن الحقيقة أنهم يقومون بتحطيم الوطن مع استعمال عامل الوقت، فهم يُستعملون كأداة وواجهة ليس إلا ولا يملكون من أمرهم شيئا، فيستعملون إعلاميا لحرقهم، ويستعملون في الوزارات أو في المديريات أو حتى محليا لوضعهم أمام معاناة المواطن، لأنّ من يدفعونهم للقيام بذلك، لا يعالجون في مستشفيات الجزائر ولا يلبسون ملبس الجزائريين ولا يقضون فترة استجمامهم في شواطئ الجزائر… بل لا يُحسّون بالأمن إلا خارج الجزائر لأنهم غرباء على الشعب.

إنه زرع ثقافة اليأس والإحباط لدى عامة الشعب، وتهيئة أرضية خصبة لانزلاقات كبيرة وخطيرة ستحدث مع الأسف، إذا ما بقي المخلصون من أبناء الوطن في عداد أهل الكهف.

إنّ المواطن الجزائري اليوم مدعوّ للتفكير مليّا، والاستعداد لدفع مؤامرة تهدف إلى تقسيم الجزائر من خلال أناس عملاء داخل أجهزة الدولة، وأناس آخرين يوهمون الشعب على أنهم مُعارضة، يسعون لرفع الغبن والظلم عنه… وما هم في الحقيقة إلاّ دمى تُستعمل لتهيئة أرضية كما قلت، عجز المستعمر في تنفيذها بدسائسه ومكره، وإدماج الشعب في مخططاته، فها هم ينوبون عنه في تنفيذها وكأنهم جوج ومأجوج، نارهم جنة، وجنتهم نار والعياذ بالله.

إنّ الضحايا الحقيقيين هم من ماتوا أبرياء، ومن طردوا من عملهم وطوردوا بسبب الشبهة، أو الذين أُرغموا على الفرار، سواء على قوارب الموت، أو اللجوء إلى أوطان الناس بعدما أوصدت أبواب الرزق في وجههم، والذين اختطفوا…

والضحايا الحقيقيون هم من سُدّت الأبواب في وجوههم وتوبعوا قضائيا، ليس لمال عام سرقوه، ولا لعرض اغتصبوه، ولا لسرّ انتهكوه، ولا لشخصيات تقمّصوها… إنما لقناعات سياسية ورؤى يحملونها تخالف نظرة النظام القائم ومدّاحيه…

أمّا من يمتلكون أحزابا ونوابا وجرائد ومنابر إعلامية اليوم، فما هم في الحقيقة إلا مُستفيدون من تضحيات الآخرين، استغلوا الفراغ السياسي الذي تركه الانقلاب، واستغلوا يأس الشارع فحصلوا على امتيازات لا يستطيعون الحصول عليها إذا ما كانت هناك إرادة شعبية حقيقية، وحصلوا على الريع مقابل لعب أدوار ستنفضح إذا ما كانت هناك تحقيقات مستقلة.

إن تحرّك الشارع الجزائري اليوم وتفاعله مع النصر الذي حققه منتخبنا الوطني بتأهله إلى نهائيات كأس العالم، قد قام بتعرية السياسيين وأكدّ عجزهم في احتوائه، وأنه شعب يئس من الدموع ومن الحزن ويتطلع إلى عيش مثل باقي الشعوب، يفرح ويأكل ويشرب، وقد رمى بالبحر إلى غير رجعة حسب اعتقادي تلك البرامج الفاشلة لبعض السياسيين، الذين ينامون طوال العام ويستفيقون مع الإعلان عن الانتخابات.

وأكد المواطن الجزائري مرة وأخرى تعلقه وحبه للوطن، وأنه قادر على النهوض بالوطن إذا ما وجد من يوجهه التوجيه الصحيح ويقوده إلى برّ الأمان، وها هو يتعلق بأيّ قشرة تحمل له أملا، وتصنع له فرحة ولو عابرة، مثله مثل ذلك الرجل الذي جرفته المياه، ووجد خشبة أمسك بها طمعا في إنقاذه من المأزق الذي هو فيه.

نور الدين خبابة
18 ماي 2010

تعليق واحد

  1. غير معروف بتاريخ

    “”ما من كاتب إلا سيبلى و يُبقي الدهرُ ما كتبت يداه

    فلا تكتبن بكف غير شيء يسرك في القيامة أن تراه””(الشافعي)

    فأبشر يانورالدين،أنت والعباس وأمثالكما،واعتزٌوا جميعا بما قدمت أيديكم!

Exit mobile version