مباراة مصر-الجزائر لم تنته إلا لتدخل وقتا إضافيا، ثم آخر… بل استبسل البعض لتصفير شوط ثالث مخصص لإثارة الجدل بشأن الهوية الجزائرية، فسخر التاريخ: كان جدل حول الهوية الفرنسية جاريا، في نفس الوقت، بفرنسا وتحول إلى حملة معادية للإسلام وللعروبة. عندنا، في الجزائر، وقع استغلال تلك المباراة كذريعة لفرض جدل عن الهوية الجزائرية. وقد شن خلاله بعض الصحافيين الجزائريين، الذين يكتبون بالفرنسية، هجمات تمحورت حول البعد العربي الإسلامي للهوية الجزائرية وحول اللغة العربية، بل ثمة من أفصح عن عبارات تلامس العنصرية، أو على وجه الدقة، العنصرية نحو الذات. أهي مجرد صدفة؟ لا أعتقد ذلك. بالإضافة إلى كون الاستلاب الاستعماري لا يتقاعد ولا يزول بمرور الوقت وحده، فإن التقارب بين الحدثين المذكورين – تتابعهما ومحتواهما – يحثنا على التفكير في استمراره كظاهرة وفي نتيجتها: احتقار الذات.

قبل ذلك، يجب الاعتراف بأن انحراف النقاش في فرنسا باتجاه إثارة الذعر من العرب والمسلمين لقي فورا معارضة وإدانة من قوى التسامح، لاسيما بين المثقفين. أما عندنا، تجري الأمور في كل ما هو عربي وكأن للبعض ملء الحرية في التفوه بما يريده وفي القدح بلا قيد، ناهيك عن عدم شعوره بالحاجة إلى فحص الأقوال على ضوء الحقائق أو المنطق.

عن المرض اللغوي

هناك أشياء لا يمكن التغاضي عنها.

هذا هو حال، مثلا، المقال الصادر بالفرنسية في’ لو كوتيديان دوران’ * وعنوانه (بعد نقله إلى العربية) :’حتمية إزالة الاستعمار الأفقي’. أشرت أعلاه إلى العنصرية. وربما دفع ذلك إلى الاعتقاد بأنني مبالغ. أبدا. في هذا المقال، وردت كلمة عربي بين مزدوجتين عن عمد، وكذلك كلمة المغرب. وانتابني الشك وقلت لنفسي لعلي لم أنظر جيدا وأسأت القراءة، وأن ذلك من الكبائر التي لا يقدم عليها الجزائريون، وأن المقصود من استعمال المزدوجتين معنى مختلف… كلا، فهو الاحتقار حقا وحقيقة. وقد أكد صاحب المقال بنفسه المعنى الذي يعطيه للكلمة قائلا: يجب فهمها حسب ‘المدلول الاستعماري والغربي (عربي على نحو ‘خدمة عرب’ أو كما ورد بقلم كامي)، أي حسب العبارة الاستعمارية الفرنسية التي تنسب كل عمل رديء للإنسان العربي، أو حسب رواية الكاتب ألبير كامي التي تصور هذا الإنسان على أنه عديم القيمة بالنسبة للمجتمع الاستعماري.

ذات يوم في باريس، أرشدتني سيدة فرنسية عن موقع مكتبة ابن سينا وأضافت بأنها ‘مكتبة عربية’ قبل أن تعتذر بسرعة عن استعمال هذا النعت. فأجبتها بهدوء : ‘أنا فخور لكوني عربي’. لدينا مثل يقول : ‘الحمار وحده ينكر أصله’. كنت دائما أعتبره قاسيا على الحمار.

لنواصل. من جهته، ينفر صاحب المقال حتى من استخدام كلمة العربية للحديث عن لغة التخاطب في الجزائر. إنه يفضل تسميتها ‘الجزائرية’ لئلا يسميها العربية الدارجة. بالطبع لم يكن بوسعه فعل هذا دون أن يناقض نفسه : فما دامت الجزائر تتحدث العربية، فهي عربية على نحو ما. إلا أن البعض يفقد كل تماسك فكري عندما يتعلق الأمر بما هو عربي.

هكذا نكتشف، والعالم يكتشف معنا، وجود لغة تسمى ‘الجزائرية’. وعلى هذا المنوال توجد أيضا على الأرجح السويسرية والبلجيكية للسويسريين والبلجيكيين الناطقين بالفرنسية، البرازيلية وليس اللغة البرتغالية للبرازيليين، الأمريكية بدل الإنكليزية، الخ.

عن اللغة ‘الجزائرية’ يقول أيضا، دون الانتباه إلى التناقض، ‘ليست لغة بعد وكلماتها نادرة ومشوهة’. هذا الكلام لا ينطبق على العربية الدارجة، لأنها عربية أصيلة إذا ما جرى الحديث بها حقا وليس بتلك الخلطة المكونة من عدد محدود من الكلمات العربية والفرنسية، والتي يريد البعض أن يخضع الشعب الجزائري إلى ممارستها، فيحبسه في تلعثم دائم ويحرمه بالتالي من التعبير. سنعود لاحقا لهذه النقطة.

‘ليست بلغة بعد’. إذا هي كذلك، كما يقول صاحب المقال، بأي لغة هو معبر؟ بالفرنسية طبعا. ها نحن قد وصلنا أخيرا. أما كثرة لفه ودورانه، فهي لإخفاء المشكل الذي ينكشف بقدر ما يحاول دفنه وتفادي ذكره ولو بكلمة واحدة على امتداد المقال. يتعلق الأمر بالمشكل الذي يجعل كل ما يقوله ويكتبه عن العرب والعربية، يقوله ويكتبه بالفرنسية، وبالنتيجة هذا يفسر ذاك. أنا لا أقول: يجب عدم الكتابة بالفرنسية والدليل أنني أكتب بها وأؤمن بأنه من الممكن جدا الدفاع عن العربية بالفرنسية. لكن الأمر يختلف تماما إذا ما استخدمت الفرنسية للتنظير للاستلاب، للاجتهاد في إخفاء هذا المشكل الأساسي بالنسبة لكل مثقف، مشكل علاقته بلغته، وبالتالي علاقته بمجتمعه، بشعبه.

هنا مصدر القلق الدائم وتشوش الأفكار اللذين أشرت إلى بعض مظاهرهما أعلاه، وكذا التناقضات، بل هنا مصدر المرض الحقيقي الذي يطوق مسألة اللغة في بعض الأوساط. وما دمنا عند هذه النقطة، لنكن صادقين فيما بيننا كجزائريين. في بلادنا أوساط اجتماعية ثقافية تعيش في حيرة وقلق دائمين فيما يتعلق بمسألة اللغة، وأنا أتحدث عنها عن دراية لأنني أنحدر منها. فالجزائري الفرنكوفوني طور عصابا نفسيا حقيقيا إزاء اللغة العربية. يفترض أنه يعرفها ما دام عربيا تعريفا، كما يجري تذكيره هنا أو في الخارج، في حين أنه يجهلها. ويفترض أيضا أنه ذو لغتين بينما هو، في الحقيقة، وحيد اللغة، طالما لا يستطيع الكتابة والتفكير إلا بالفرنسية. وهو يتكلم في داره ووسطه بالفرنسية ويعمل بالفرنسية، بل ويحب بالفرنسية. ومع ذلك، فهو مجبر على الخروج إلى الشارع أيضا ومحاذاة الشعب، المجتمع العميق. غير أن التحدث بالفرنسية في بلد كالجزائر يكنّ حقدا دفينا للاستعمار، يعني التعالي على الشعب وإيقاظ العداوة، أي المخاطرة بتوتر العلاقات الاجتماعية. عندئذ يلجأ الجزائري الفرنكوفوني إلى التظاهر بتمتمة العربية، وإدخال كلمات عربية هنا وهناك في فرنسيته أو تعريب كلمات فرنسية، فينتج هذه الخلطة وذاك التلعثم المستمر.

فهو يعيش داخل الجزائر وخارجها، على السواء، في كذب متجدد بشأن هويته الثقافية، هويته هو لا هوية الشعب الجزائري. الحل بسيط: التحرر واستملاك لغته، وهو الحل الذي اختاره أفضل الفرنكوفونيين الجزائريين، خاصة إبان الثورة الوطنية حيث كان الحماس قويا جدا. من الناحية التقنية لا يطرح تعلم اللغات أي مشكل. نفس الجزائري الفرنكوفوني، الذي لم يتعلم خلال عشر أو ثلاثين سنة العربية، الفصحى على الخصوص، يستطيع تعلم الإنكليزية أو الروسية خلال بضعة أشهر إذا عاش في انكلترا أو روسيا. لماذا؟

هناك بلا شك السبب النفسي الذي سبق ذكره، وهو أنه لا يتعلم العربية لأن من المفروض أنه يعرفها. لكن هناك أيضا أسباب اجتماعية بصورة خاصة. اللغة هي أيضا السلطة واللغة الفرنسية لا تزال منبع امتيازات عديدة وتأثير أكيد على السلّم الاجتماعي. فيكون الدفاع عن الوضع القائم والحقد على الذين يريدون إعادة النظر فيه والرغبة في محاربتهم عوامل شديدة الإغراء. ويلوح في الأفق انفصام الشخصية، لكنه انفصام اجتماعي يتم إسناده إلى مادة إيديولوجية، إذ يعلن أنه ليس عربيا حتى يتخلص من ضرورة البرهنة على ذلك. كما يقوم بترقية خلطته أو الخلطة التي يشجع الشعب على استخدامها إلى لغة وطنية، إلى اللغة الحية الحقيقية ما دامت هي لغة الشارع و’الحياة الحقيقية’: ‘وان، تو، تري، فيفا لالجيري’، هذه هي اللغة الغريبة التي يذرف عليها دمعة حنان والتي تشكل كل البرنامج الثقافي الذي يقترحه على الشعب. لا يهم بعد ذلك إذا حرم الشباب من التعبير إذ يكفيه هو أن يفصح هو عن أفكار مركبة ومجردة بواسطة… الفرنسية. ولا يهمه أيضا أن تكون تلك الأفكار بعيدة عن الحياة الحقيقية أو يقوم بتبرير كل ذلك بالدفاع عن نظرية مفادها أن الفرنسية ‘جزء من هويتنا’ وأن ‘الجزائر متعددة ثقافيا، متعددة لغويا’، أي أنه يختار إيديولوجية على مقاسه.

عن الاستلاب

إنه يقوم بترقية استلابه الثقافي إلى فعل تحريري. هذا ما أقدم عليه صاحب المقال المشار إليه عندما قرر أن نبذ العربية هو ‘عمل مزيل لاستعمار أفقي’. لماذا ‘أفقي’؟ لا ألح. لكن هذا الجزم مبني على فرضية لا تاريخية بديهية مؤداها استخدام مقولة تتعلق بظاهرة تنتسب إلى التاريخ الحديث والمعاصر – الاستعمار – للكلام عن سيرورة انطلقت قبل 14 قرنا، سيرورة تأصيل البعد العربي – الإسلامي لهويتنا. كأن ينكر لاتينية فرنسا لأن الغاليين لم يكونوا كذلك أو لأن الفرنجة كانوا قبيلة جرمانية أو كأن يقرر بأن انكلترا هي بروتونية لأن الأنجلو – سكسون (الذين أعطت إحدى قبائلهم اسمها لانكلترا) قدموا إليها بعد البروتون بين القرنين الخامس والسابع، الخ.

هل نشبت حرب تحرير واحدة ضد ‘الاستعمار العربي’ طيلة القرون الـ14؟ في الحقيقة كل هذا عبث في عبث. رغم ذلك نحن مضطرون لتسجيله، كما أفعل هنا، لأن البعض لا يتردد عن تكرار هذا القول المثير للسخرية تاريخيا، مثلما وقع في الأسابيع الأخيرة على صفحات بعض الجرائد الجزائرية الصادرة بالفرنسية.

إلا أن المضحك يصبح خطيرا عندما يقلص الانتماء الهُويِّي إلى انتماء عرقي: ‘العرب في الجزيرة، أما الجزائر، فهي بربرية’، هذا ما جاء في بعض تلك الصحف تمهيدا للمماثلة بين المصريين والفاتحين العرب حتى تصبح الحبكة جاهزة، إذ عادت إلى الظهور مجددا مجموعة المبتذلات عن المصريين الذين يكونوا قد ‘فرضوا علينا التعريب خلال عقد الستينيات’ وكذلك ‘صدروا إلينا النزعة الإسلامية’… وتطوع البعض من أجل ترديدها في صحف جزائرية معينة وعلى مواقع حوارية جزائرية بالفرنسية على الانترنت. بحسب هذا المنطق تكون اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية في كل من المغرب وتونس وليبيا وموريتانيا وللصحراويين نتيجة صدفة جبارة وعجيبة أو نتيجة قيام المصريين بفرض ‘التعريب’ عليهم. أولئك المتحاورون والكتاب على علم دون شك بالانحرافات العنصرية التي قادت إليها هذه النظرة العرقية حيثما جرى تشجيعها. أما فيما يخص الحركة الإسلامية، فإنها ظاهرة عالمية لا تقتصر على الجزائر ويكون تحليلها بالتالي أطول وأعقد. إلا أنه من الواجب أن نسجل وجود قلق منشؤه تلك المبتذلات وأصداؤها والتي تثير جزائريين ضد آخرين.

الاستلاب يلد الحقد. إنه يعني النظر إلى الذات بأعين الآخر والخضوع له.

لقد أرادت فرنسا أن تبرر الاستعمار بطبيعة الحال وتضفي عليه نوعا من الشرعية بقولها إنها لم تجيء إلى الجزائر إلا بعد محتلين آخرين (الرومان، البيزنطيون، الأتراك) من بينهم العرب. وراح الإنسان الخاضع للاستعمار والمستلب يعيد نفس القول دون أن يلاحظ أنه مشبوه بسبب صدوره عن المستعمر بالذات. وقد سبق لفرانز فانون أن وصف بوضوح في كتابه ‘بو نوار إي ماسك بلان’ (‘بشرة سوداء وقناع أبيض’) سيرورة العنصرية نحو الذات واحتقارها والتي تجعل المستعمر يستبطن قيم الاستعمار وثقافته، فيكره روحه ويمقت في المستعمر مثله الصورة التي يعكسها عنه. كما وصف أسلوب تمزيق المستعمَرين بعضهم بعضا، كما فعلنا بمناسبة مباراة مصر – الجزائر، في ظل ارتياح المستبدين بنا.

عندنا مثلا ‘المعرب’ و’المفرنس’، هذان الاسمان الغريبان اللذان يكوّنان زوجا جهنميا ينحدر من صلب الاستعمار والذي لا يمكن لعضو فيه أن يعيش دون الآخر، وفي نفس الوقت، يكره كلاهما الصورة التي يعكسها الآخر نحوه.

هذا الأمر يبلغ الذروة عند مناصر ‘إزالة الاستعمار الأفقي’ المشار إليه، إذ حاول، بعد أن وضع اسم ‘عربي’ بين مزدوجتين وأكدا بالتالي صلاحية تحليل فانون للاستلاب لحالته الخاصة، حاول أن يحرف ذلك التحليل بالدعوة إلى التحرر من الاستلاب تجاه ‘الاستعمار العربي’. بل ذهب إلى حد محاكاة عنوان كتاب فانون بتحويله إلى ‘بشرة جزائرية، قناع ‘عربي’ (المزدوجتان هنا أيضا من وضعه). هكذا نكتشف وجود ‘بشرة جزائرية’ أيضا زيادة على اللغة المسماة ‘الجزائرية’. ثم هناك التأكيد على أن اللغة العربية الفصحى، ‘لغة المدرسة’، هي ‘لغة ميتة’. عبارة أكل عليها الدهر وشرب. لكن لنسأل: ميتة مقارنة مع ماذا؟ مقارنة مع اللغة ‘الجزائرية’ التي يتكلم عنها. أطلب من القراء أن يجربوا قول كل ما كتب هنا، أو في أي مقال آخر مكتوب بالفرنسية، قوله بـ ‘الجزائرية’ (بمعنى الخلطة) وحتى بالعربية الدارجة. يستحيل القيام بهذا بالطبع. والنتيجة واضحة ومعها الهدف المنشود: إجبارنا على الصمت، على العجز عن الكتابة، عن التفكير في لغتنا، عن البرهنة علميا والتعبيرعن فكر دقيق، مجرد، لبق، لطيف، متمدن. لا توجد حضارة بلا لغة أدبية.

ثم من قال بوجوب تعليم ‘لغة الدار’، ‘لغة الأم’ أو لغة الشارع في المدرسة. لم يسبق أن تم ذلك في أي بلد من بلدان العالم. مثل ذلك الرأي لم يلق أذانا صاغية إلا لأنه قائم على جهل الكثيرين بسيرورة النمو اللغوي. الصحيح هو العكس أي أن لغة المدرسة، اللغة الأدبية، هي التي أصبحت، في كل مكان ‘لغة الدار’،’لغة الأم’ بفضل نمو التعليم وتعميمه. في فرنسا، لم تتحقق هذه السيرورة حقا سوى خلال القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20. وتطلب ذلك إنشاء وتعميم مدارس بعينها أطلق عليها اسم المدارس المعيارية (إيكول نورمال’) نظرا للمهمة الموكولة إليها والمتمثلة في تقنين الفرنسية، بصورة خاصة، ثم تعليم نفس الفرنسية، الفرنسية الأدبية، في كل مكان، بصورة عامة. فكان سلك المعلمين – حرفيا المؤسسين(‘أنستيتيتور’) – المتكون من الذين تخرجوا من تلك المدارس يعد بمثابة مؤسسة مرجعية بالنسبة لتلك اللغة الفرنسية الأدبية، تضطلع بمهمة توحيد لغة الأمة ونشرها في كل أرجاء البلاد، بما فيها أصغر القرى. وهو الأمر الذي دعمته قوانين جول فيري في 1881 و 1882 حول إجبارية ومجانية التعليم الابتدائي. في إيطاليا، لغة المدرسة هي لغة روما الأدبية ولا تزال سيرورة نشرها هناك غير مكتملة حتى الآن، لاسيما في الجنوب، الخ.

كيف يمكن وصف اللغة العربية الفصحى بأنها ‘لغة ميتة’ بينما هي لغة آلاف الصحف ومئات الإذاعات وعشرات بل المئات من قنوات التلفزيون وعشرات الآلاف من مواقع الانترنت وبينما تبدي قنوات أجنبية مثل فرانس 24 وغيرها إدراكا واضحا لأهمية أن يكون لها قناة تلفزيونية بالعربية، وبينما تمثل هذه اللغة إحدى اللغات الرئيسية للأمم المتحدة وبينما دفعت الأسباب التجارية (350 مليون مستهلكا) ميكروسوفت إلى إصدار آخر ويندوز بالعربية قبل الفرنسية، وبينما تعير غوغل اهتماما بالغا لمحركها البحثي بالعربي وأقدمت، لنفس الغرض، على شراء المحرك مكتوب…

هل الجزائر هي البلد الوحيد الذي يمكن فيه التطاول على اللغة العربية؟

العودة إلى الاستعمار؟

في الحقيقة إن القول بأن اللغة العربية الفصحى هي ‘لغة ميتة’ وغيره من الأقوال المنافية لهويتنا ليست جديدة.

إن ما جاء في عدد من الصحف الجزائرية الناطقة بالفرنسية من أن مباراة مصر – الجزائر مثلت ‘الشرارة’ أو آلية إطلاق ‘وعينا بهويتنا الحقيقية وبأننا لسنا عربا’ غير صحيح لأنه مجرد ترديد لمزاعم قدمت مرارا وتكرارا فيما مضى، وجرى اجترارها أكثر من مرة منذ زمن بعيد. وما المباراة سوى الفرصة لإخراجها ثانية من صندوق الخزن، خدمة لحملة إعلامية، ولنفخ شحنة من الانفعالات فيها. إنها ليست بجديدة أيضا بمعنى أنها تؤلف جزءا من ترسانة الإيديولوجية الاستعمارية حول اللغة العربية ومسألة عروبة الجزائر. سنكتفي بإيراد استشهاد واحد. لقد جاء في العدد 7 لشهر اذار/مارس – نيسان/ أبريل 1954 من إحدى المجلات الفرنسية ** الناطقة باسم قطاع التعليم ما يلي: ‘قدم مفتشو التعليم الابتدائي في اذار/مارس 1954 لائحة تتميز بضيق أفق شاذ حيث جعلوا من العربية الدارجة لغة فجة، ومن العربية الفصحى لغة ميتة، ومن العربية الحديثة لغة أجنبية؛ وقد خلصوا إلى التوصية بإقصاء هذه اللغة عن التعليم على اعتبار أنها تجسد في هذا البلد شكلا من أشكال التعريب الاضطهادي’.

كانت فرنسا الاستعمارية قد قررت أن العربية الفصحى ‘لغة ميتة’ لأنها لغة قادرة على منافسة الفرنسية. هذا هو السبب الكامن وراء شن الهجمات المنتظمة عليها. لم تكن الدارجة أو الأمازيغية تخيف فرنسا الاستعمارية لأنهما لم تكونا، بطبيعة الحال، قادرتين على منافسة الفرنسية في الحياة الإدارية، الاقتصادية، الخ. بالمناسبة، كان الاستعمار الفرنسي يلجأ إلى طريقة شيطانية للإيحاء بأن العربية الفصحى ‘لغة ميتة’ وهي تتمثل في السماح لتلامذة الثانوي في الجزائر باستعمال القواميس خلال امتحانات العربية على غرار امتحانات اللاتينية. ونتج عن تلك الممارسة تأسيس عنصر من عناصر البرهنة اللغوية الاستعمارية: العربية الدارجة هي اللغة الوطنية في الجزائر وهي تنحدر من العربية الفصحى كما تنحدر الفرنسية من اللاتينية.

بعد الاستقلال لم يكن لسياسة ‘التعريب’ – ها هي كلمة خادعة أخرى تلمح إلى أننا غير عرب من خلال غاية تعريبنا – سوى هدف البحث عن توازن بين العربية والفرنسية، عن تعايش بين هاتين اللغتين. هذا الاستنتاج لا مفر منه إذا تشبثنا بالوقائع وحدها وحللنا تلك السياسة من خلال نتائجها وليس من خلال النوايا المعلنة بشأنها. والنتائج ماثلة للعيان. كل شيء عندنا ثنائي ومصحوب بالانشطار والنزاعات الناجمة عنه: نخبتان، واحدة بالعربية والأخرى بالفرنسية، دون اتصال فيما بينهما، جامعتان، واحدة بالعربية والأخرى بالفرنسية، إدارتان، إعلام وإعلام، الخ. كيف يمكن للجماعة الوطنية أن تحافظ على توازنها الذهني.

هنا يكمن المرض الذي نعانيه على صعيد الاتصال بين الجزائريين. وقد يبلغ التشويش حدا غريبا في هذا المجال. يوم 9 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تحدث وزير الداخلية بالفرنسية إلى القناة التلفزيونية الجزائرية الناطقة بالعربية، لكن كلامه لم يترجم كالعادة. في اليوم السابق، كان وزير الخارجية قد توجه بالفرنسية إلى السفراء الجزائريين، وحتى في القاهرة يوم 13 تشرين الثاني/نوفمبر، تحدث بالفرنسية، ومثلما يقع في كل مرة يتكلم فيها جزائري بالفرنسية، لم تقم القناة الوطنية بالترجمة الواجبة. لكن يكفي أن يكون المتحدث أجنبيا لتنطلق الترجمة العربية مع أن اللغة في كلتا الحالين هي الفرنسية. إنه اللامعقول بعينه. في المقابل، تجري في كنال ألجيري – القناة الجزائرية التي تبث بالفرنسية – ترجمة كل قول بالعربية إلى الفرنسية.

تعاني لغتانا الوطنيتان، العربية والأمازيغية، الاضطهاد في بلدهما. وإن كان الشعور به مباشرا في حال الأمازيغية، الكل لاحظ بأن المبدأ الذي ينص على أن العربية لغة رسمية ووطنية لا يزيد، في أغلب الأحيان، عن كونه مبدأ نظريا. إن مسؤولين كبارا كثيرين لا يعيرونه اهتماما حتى خلال تدخلاتهم العامة. إن العربية ضحية هي الأخرى.

في الإدارة العليا وغالبية الوزارات، لغة العمل هي الفرنسية. نفس الشيء في جل قطاعات النشاط الاقتصادي خاصة العصرية منها (المواصلات، المعلوماتية، الطاقة، الخ). الإشهار يكاد يكون دائما بالفرنسية، الخ.

مسار الشبيبة المتعلمة بالعربية – وهي الأكثرية – يشبه مسار المحارب: في الاجتماعات العامة وحتى الرسمية منها، تسود الفرنسية فيسكت الشاب. إنه يعجز عن ملء أغلب الاستمارات. في المطاعم الفاخرة، تقدم له قائمة الطعام بالفرنسية ويوجه له الكلام بالفرنسية، فيفضل الامتناع عن ارتيادها، الخ. من السهل تخيل العقد التي تعذبه والكبت الذي يقضمه وبالتالي النقمة التي تسكنه. فهو مبعد، مهمش، لا لشيء سوى لأنه متعلم، مثقف… بلغة بلاده. هذا ما لم تكن ثورته الوطنية تريده.

إن الفحص الجاد للمسألة يبين أن الكثير من التوترات والمسكوتات والنزاعات الصريحة أو المضمرة وكذا العديد من خصوصيات الحياة الاجتماعية في بلادنا تجد تفسيراتها في هذه التوترات الثقافية.

جمال العبيدي
10 فبراير 2010

* كمال داوود، يومية وهران، 20 ديسمبر Kamel Daoud, Le quotidien d’Oran, 20 décembre 2009
** المدرسة الجمهورية عدد 7 مارس-أبريل L’école républicaine, n° 7, mars-avril 1954 

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version