عندما أخبرت صديقي خالد في الجزائر إني قادم بعد أيام قليلة إليها، فاهتز للزيارة قلمه، وكتب لي فرحا منتشيا في رسالته: “حياك الله فالأمة تنتظرك” فكتبت إليه: لا أريد الأمة، ولكني أريد مكتبات وأساتذة متخصصين أستفيد منهم في بعض الأبحاث التي أكتبها أو أعد لكتابتها؛ ولما وصلت مطار هواري بومدين وجدت الأمة وحشود المستقبلين لأهلهم وأصدقائهم، ولم أجد صاحبي فضلا عن أي أمة تنتظرني!

وبعد صرف نقود إلى عملة محلية، وامتناع أجهزة المغرب عن قبول بطاقات المشرق، وبعد أن صمت هاتفي فلا يستقبل ولا يرسل، وصل صاحبي للمطار، وخرجنا من زحام الأمة حيث كان الناس يستقبلون بقية العمّار والزوّار، وكان لقاءا ممتعا بعد انقطاع سنوات، ثم اتجهنا إلى ضاحية “أبو هارون” حيث أسكننا في داره المطلة على البحر الأبيض المتوسط شمالا، وفي الخلف أو الجنوب تحتضن الغابة الحيّ، في بداية شهر أكتوبر بعد العيد تجد طقسا لا أمتع، وأرضا لا أخصب منها أرض، حيث تحارب النباتات الإسمنت، وتقتحم البيوت، وتعترض الشوارع، وتجد الإنسان وقد استسلم لطبيعة الأرض يتركها تمشي على حالها، لا يلمسها إلا نادرا، ولا يغرس ولا يزيّن منها، وكأن الإنسان عليه عهد أن يشاهد الأرض حوله تخضرّ مع بدء الربيع، ثم يصفرّ بعضها إن اشتد الحر وتتساقط ثمارها في الخريف، ويسقط بعض ورقها في الشتاء الشديد، والقوم مستمتعون بالمنظر، ولا يصنعون منه حياة لهم، وقلّ من يزرعون أو يستغلون هذه الجنة، بل يرقبون فرصة للهرب إلى الشاطئ الموازي حيث العمل والمدنية أو إلى المشرق حيث بعض المال والراحة الدائمة!

وقد تنقلت في بلاد الله كثيرا ولكن أرض الحماد الحمراء الخصبة التي يرطبها المتوسط، وتجود عليها السماء، وتتشامخ عليها الغابات بلاد رائعة، ولما مدحت الأرض أكمل زميل جزائري بنقد الإنسان، وكأنه يلمح إلى أني أضمرت ذلك أو أردت قوله، والحقيقة إني قلت لهم لا لوم عليكم من مشرقيّ أبدا، فهذا نهر الذهب الأسود والأحمر يصبّ في المشرق ليل نهار لا يعرف موسما ولا يقف، والإنسان هناك لا يعمل شيئا، تمر به الأمم الغانمة لثروته، وهو يقلب كفا على كف، ولا يعمل ليوم نضوب النهر، بل ويقوم كثير من متنفذيه بما يقوم به جنرالاتكم يحذو اللاحق السابق، فكما يفعل جنرالاتكم بثروة بلادكم حيث يرسلونها إلى حسابات خاصة في سويسرا بالمليارات، يفعل المتنفذون المشارقة فعلهم.

لست أدري كيف تتطفل السياسة على الرحلة، ولكن السياسة في الجزائر تؤزك من كل زاوية، فملامح جريمة فرنسا في الجزائر لا تطمسها السنين، ولا يلغيها مرور الكثير من الدهور، هي في الذاكرة قابعة وفي الألسن وعلى الجدران وفي النفوس، وكأن الجزائريين لا يفكرون في نسيانها، ولعلها عند بعضهم تكون تسلية عن مسؤليتهم عن حاضرهم، وكأنهم لا يريدون الخروج من كابوس الإرهاب والإبادة الفرنسية.

ثم في اليوم التالي ذهبت للمدينة، وكنت أحب رؤية بعض آثارها التي كتبت عنها ولم أرها، من مثل القصبة والجامع الكبير، ومسجد علي بتشنين (رئيس بحارة إيطالي أسلم وبنى مسجدا من أهم مساجد العاصمة) ومسجد كيتشاوة، فكان الجامعان الأخيران مغلقين للترميم، ولم نجد موقفا ولا نشاطا لصعود الدُّروج، وكان الفرنسيون قد أعادوا بناء المدينة القديمة، وزالت معالمها، ولم يبق من السور شيء كما قال لي مرافقي، ولم يبق من آثارها الأولى إلا مساجد قليلة، ومبان لا تكاد تذكر، زرت عددا من مكتبات مدينة الجزائر، وكنت آمل أن أرى زخما من الكتب والمجلات العلمية، ولكن للأسف أخلفت المكتبات ظني، ولم أجد إلا قليلا ورأيت كتب الزحف المتفلت التافه، الذي يأكل رفوف المكتبات في المشرق، ودور نشر من حثالات ثقافة اليسار تطبع بكثرة، وهي العناوين نفسها التي تراها في المشرق العربي، وقليلا ما وجدت شيئا عن البلاد. لاحظت أن الكتب تغيب بسرعة من أسواق الجزائر ربما لقلة النسخ المطبوعة، لأنني كنت قد وجدت في الشرق وبعض البلاد الغربية الكثير مما لم أجده في بلده الذي طبع فيه.

ذهبنا إلى “المتحف الوطني للمجاهد” القائم تحت تمثال الجندي المجهول، على جبل عالٍ، دخلنا وكان معي إثنان من المثقفين الجزائريين يعدان للدراسات العليا، ولما وقفنا عند تمثال يجسد جزائريا معلقا بيده اليمنى بالحديد، والجروح والدماء على جسده، ليمثل نمطا من تعامل الفرنسيين، قال المثقف الجزائري الذي كان بجانبي كلمة معبرة وعميقة: “هذا ما فعل بنا الفرنسيون، وعساكرنا يفعلون بنا اليوم أشنع من هذا!” وأشار إلى أنه لم تتغير حال الجزائر تحت احتلال الفرنسيين أو احتلال الجنرالات، كان الفرنسيون ينهبوننا ويذلوننا ويبيدوننا والحال اليوم كما هي، غير أننا لا نستطيع أن نسميهم فرنسيين ولا أن نطردهم، فهذه خيراتنا تذهب لفرنسا ومن والاها، والعائدات في جيوب الجنرالات، وقد يرمون علينا ملابس خلقة مستعملة، سببت الأمراض في جلودنا، بل وحتى الأحذية المستعملة تمرض الأقدام.

للبلاد وجوهها الأخرى الجميلة، غير وجوه الاستبداد الكالحة، ففي أمسية عامرة عن ذكرى الشيخ أحمد حماني عقدت في المجلس الإسلامي الأعلى حضرها نخبة الجزائر، وقد سرني ذلك جدا، فها هم رموز العلم والسياسة والأدب والتاريخ يجتمعون لتكريم أحدهم، وهو احتفال يتكرر لشخصيات البلاد المؤثرة من الأحياء والأموات، فقد كان من المكرمين من قبل الشيخ عبد الرحمن شيبان. تقدم المتحدث الرئيس وقد كان من تلاميذ الشيخ، ثم عمل معه بعد ذلك خمسة عشر عاما، فسرد قصة حياته مختصرة، وعن علمه وتعليمه، وفتاواه، والجوانب الأبرز في حياته، فكان أسلوبه ممتعا ودقيقا بلا تكلف، أما المتحدثون الباقون فقد ألقى كل منهم ضوءا على جانب من جوانب حياته، ولم يكرروا القول، وهذا مما أعجبني في الندوة.

وسرني حرص المثقفين من شتى التوجهات على الحضور، وحرصهم على تكريم العالم المفتي المجاهد، وهذا خير لم أره في المشرق حيث أهل كل توجه لا يشاركون غيرهم في الاعتراف بشخصية واحدة لها أهميتها، فإن كان المحتفل به متدينا رأيت غير المتدينين لا يتحملون حضور ندوة ولو لعبقري متدين، ويلتفون حول ضعيف المقدرة من أهل هواهم، وتجد المتدينين يتزاحمون على واعظ ضعيف، ويتحاشون مفكرا مؤثرا إن لم يكن متدينا! قد كان في الندوة الشيخ عبد الرحمن شيبان على جلالة قدره وعلو سنه، يتحدث في ذكرياته مع الشيخ حماني وكان زميله، ورفيقه في الكفاح ضد الفرنسييين في عهد الزيتونة وبعدها، وساق قصة طريفة وهي إن الشيخ حماني كان يتخذ لنفسه اسم سيدة فرنسية يرسل باسمها الرسائل والبيانات، حتى لا تلفت انتباه سعاة البريد وجواسيس فرنسا، ومنها بلاغ مهم صدر عن جمعية العلماء، يستنكر اختطاف الفرنسيين للشيخ العربي التبسي في تلك الأيام، وقد طبع صورة من “البيان” الذي نشر في جريدة “المقاومة الجزائرية”، مجلة المجاهدين التي كانت تصدر في تلك الأيام بتونس، في: 22 رمضان 1376هـ 22 ابريل 1957م، وكان الشيخ شيبان من محرريها، و وزّع صورة البلاغ على الحاضرين في الندوة، أما مشاركة الشيخ شيبان في الحفل فكانت قطعة أدبية رائعة، مع لغة متفوقة، وقد علمت إنه صاحب اهتمام كبير بالأدب واللغة والشعر.

وكان من الحاضرين الكبار السياسي المحترم عبد الحميد مهري، دخل دخول العامة للقاعة بحث عن مقعد وجلس مثل أحدهم، وقد توقعت أن يدعوه عريف الحفل للمشاركة في الحديث، فلم يفعل وكنت اتوقع أن يقدر وجوده ومكانته، ومعاصرته للشيخ فكل منهما كان نشطا ومحررا مجتهدا في نصرة بلاده، واستغربت! وكان هناك أيضا الشيخ آيت علجت، وعمار الطالبي، وشيخ من مشايخ الصوفية اسمه “القاسمي”. والأستاذ الحسني الذي كان يتوقد نباهة وحرصا، وقد تحدثت معه عن بعض المصادر المهمة ولمحت فيه اتساع ثقافته واهتماماته والحرص على توجه بلاده، وكانت صلته معروفة بالباحثين والمثقفين من بلاد عديدة.

تبين من كلام المتحدثين عن الشيخ حماني أنه كان عالما حرا، وتحدثوا عن حكمتة واتزانه، و كان يحرص على الاصلاح، مقتربا من الحكومة يتفق معها مرة، و قد يخالف أخرى؛ كما قال جليسي “إنه كان كابن باز في مواقفه” ثم كان صاحب فقه ولغة ونكتة، ذكر بعضهم بعض طرائفه، وإذا تحدثوا بالعامية لم أفهم، ثم تحدث للحاضرين زميل للشيخ كان معه في السجن أيام حرب التحرير، وكان قد ضايقه الضباط الفرنسيون وأخرجوه إلى زنزانة انفرادية، فنظم السجناء إضرابا لمناصرته، وصمدوا حتى أعيد إليهم.

ومن باب التكريم طلب الأستاذ الحسني أن يغير اسم شارع “أبو نواس” ويسمى باسم الشيخ حماني، فاعترض أحد أنصار أبي نواس “قيل لي إنه شاعر أيضا”، على الأستاذ الحسني، مدافعا ومتحمسا، عن شاعر عظيم، ثم غير احتجاجه بأن الشارع صغير، فاجعلوا اسمه على شارع كبير، ثم غير الاستراتيجية لما استلم مكبر الصوت بقوله: سموا به إحدى الجامعات ولتكن جامعة خروبة التي فيها كليات شرعية. كانت طرافة الرجل ولعبه بالحجج تذكّر بعبث أبي نواس، استلم ابن حماني درع التكريم، وأصروا عليه أن يقول ولو كلمة قصيرة، فأكد على حرص والده على السنة ومجانبة البدعة.

ومن الجهات التي تيسرت زيارتها جامعة خروبة، وفيها أقسام للتاريخ والدراسات الإسلامية والاقتصاد والإدارة، وقابلت فيها أحد المؤرخين المهتمين بتاريخ البلاد وهو الدكتور بلغيث، الذي أهداني مشكورا خمسة من كتبه، ثم بحثت عن المؤرخ الشهير “أبو القاسم سعد الله” شيخ مؤرخي ومحققي الجزائرعبر العصور، وهو في تاريخ الجزائر حجة، كالشيخ حمد الجاسر في تاريخ الجزيرة العربية، فبقدر ما كانت الجزيرة العربية محظوظة بحمد كذا كانت الجزائر أسعد بسعد الله، ولعل كل من جاء بعده سيكون مدينا له بالمعلومة أو بالفكرة عن البلاد، أو على الأقل بسجلات المراجع، ومن أهم كتبه رسالته العلمية عن: “تاريخ الحركة الوطنية”، وكتابه الكبير “تاريخ الجزائر الثقافي” في نحو عشرة مجلدات متقنات، وله تحقيقات كثيرة، ثم إنه أديب وشاعر، ممسك بزمام العربية راسخ فيها، مجيدٌ للفرنسية والانجليزية وترجم من الإنجليزية كتابا هاما جدا للمؤرخ “وولف”، ولكننا لم نستطع مقابلته لكونه في منطقة وادي سوف النائي في عمق البلاد، ومؤرخنا من المثقفين الذين يضعون بصماتهم على عصرهم، فكانت آراؤه وأبحاثه مثار نقاش تجدها عمدا أو عرضا على ألسنة المثقفين في بلاده، ففي ندوة الشيخ حماني ورد ذكره أكثر من مرة وفي مجالس المثقفين لا يغيب رأيه أو خبره قبولا أو ردا لما قال.

ومن زملائه من مؤرخي الجزائر ناصر الدين سعيدوني، وهو أيضا مكثر ومتقن، وهو يدرس في جامعة الكويت، وهناك آخرون يستحقون الاشادة بأعمالهم. ومنهم عمار الطالبي الذي كتب عن ابن العربي وحقق له كتاب: “العواصم من القواصم”، وقد أحسن باخراجه الكتاب لأن نسخة الشيخ محب الدين الخطيب كانت مقتطعة ومشوههة للكتاب الأصلي ومسيئة لابن العربي مؤلفاً، وقد وجدت له في جريدة البصائر كتابات يرد فيها على الكاتب التونسي هشام جعيط في بعض أبحاثه الأخيرة.

وهناك تقوم السلطة بما التزمت به من تفتيت المجتمع، ومنع قيام كيانات سياسية أو فكرية أو أي نمط من المجتمع المدني يحيي المجتمع، حتى تبقى السلطة والسيطرة للمستعمرين ولوكلائهم المنوط بهم إبقاء المجتمع محطما مفتتا وتابعا، وقد كانت الحرب الضروس في التسعينيات بين الإسلاميين والعسكر التابعين للقوى الغربية مأساة على البلاد، إذ لم يفقه الإسلاميون للأسف أن فرنسا وأمريكا تنظران للجزائر كمستعمرة، ومخزن للنفط والغاز فلا يمكن التفريط بها، وكان يتوهم الإسلاميون أن بلدهم حر أو أنه يمكن للشعب الجزائري أن يختار حكامه ومصيره!!

وكانت هذه من أوهام المشايخ والسياسيين الناشئين الذين لا يقدرون الهيمنة الاستعمارية على بلادهم من خلال وكلاء، وهذه قصة العالم العربي، فحتى مناطق صغيرة جدا وفقيرة جدا وبلا موارد كجيبوتي وغيرها تقيم عليها جيوش وفيالق استعمارية قامعة للقريب وللبعيد، فكيف ببلاد كالجزائر، بما تملكه في باطنها من ثروة، وعلى أرضها من قوة بشرية واقتصادية، وفكرة هادية قد تمثل خطرا مقيما على القوى الاستعمارية المسيحية المتربصة لو تحققت لها الحرية.

في المتحف الوطني للمجاهدين الذي فيه سجل الجهاد الجزائري لتحرير البلاد من الفرنسيين وزعوا علينا النشيد الوطني الذي كتبه “مفدي زكريا” في سجن بربروس عام: 1955م. وهو منبئ عن حال الحرب والمواجهة، والشدة والعناد والقوة والتصميم على الاستقلال، وفيه ملمح نفسي لا يغيب عن القارئ، ولا يغيب عن العين، قادم من زمن التحدي القاسي ذاك؛ فاقرأ في النشيد:

قسما بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

كنت أتذكر، ولم يكن غائبا عني، قول أحد المعلقين من العساكر الأمريكيين في العراق الذي يقول إن العراقينن يطالبوننا بالخروج، ويقول أحدهم اخرجوا من أرضنا وخذوني معكم! فالجزائري قهر الفرنسيين وأخرجهم، ولكنه اليوم يتمنى لو كانوا أخذوه معهم ليخرج من قيود الفقر والاستبداد! بل إن زعامات من زعامات جبهة التحرير وجنودها الصِّلاب ذهبوا ليستقروا هناك، وليكتبوا بالفرنسية، صحبت معي للقراءة في الطائرة مذكرات حسين آيت أحمد المناضل الشهير، وكنت أقرأ على الغلاف إن الكتاب مترجم من الفرنسية، وأعجبتني عناوين كتبه الأخرى، تلك التي لم تر النور باللغة العربية.

ودعت مضيفيّ الكرام، بمشاعر متشابكة من الحزن والحب والشفقة على بلد عظيم، ورصيد هائل من الجمال والثروة ثروة الإنسان، وثروة الأرض برها وبحرها جبالها الساحرة وفيافيها المترامية.

محمد الأحمري
6 شوال 1429هـ – 6 أكتوبر 2008م

تعليق واحد

  1. محمد رضا بتاريخ

    السلام عليكم
    مقال رائع شاء الله أن أقرأه بعد أربع أعوام ….الحمد لله و بارك الله فيكم أستاذنا

Exit mobile version