محمد مصطفى حابس: جينيف / سويسرا

في هذا الأسبوع مع نهاية شهر ثورة نوفمبر الخالدة وبداية ديسمبر ونحن لم نكفكف دموعنا بعد من صدمة رحيل أستاذنا الكبير المفكر الديبلوماسي المجاهد الدكتور سعدي ( عثمان) حتى التحق به الدكتور سعيد (شيبان)، إنها أيام حزينة من أعمارنا ونحن نوّدع سعداء الجزائر واحدا تلو الآخر، الذين أسعدوا أجيالنا بعلمهم وتقواهم وإخلاصهم وتضحياتهم، إذ كانوا حقا جواهرنا النفيسة في عنقود بدأت ترحل الواحدة تلو الأخرى، رجال من طينة الكبار الذين عناهم الله في قوله تعالى: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
إذ بعد رحيل أستاذنا الكبير الدكتور عثمان سعدي، رحمه الله، ها هو يلتحق به في نفس الأسبوع شقيقه، أحد القامات الكبرى من رجالات الجزائر العظام المخضرمين، أستاذنا الكبير، صاحب العلم والعمل الهادئ الذي جمع طيب الاخلاق مع الإخلاص حيثما حل وارتحل في المناصب والرُتب، من أستاذ الى مدير مستشفى الى رئيس بعثة طبية دولية الى وزير…
نفض الغبار عن الشخصيات الوطنية والعلمية لتبليغ الأمانة للأجيال:
نعم يرحل اليوم البروفيسور سعيد شيبان، أحد أضخم محركات (ديناموهات) جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والوزير الأسبق للشؤون الدينية والأوقاف، عن عمر ناهز 97 سنة.. وبالمناسبة منذ أسابيع فقط ذكرناه بخير، لما أتصلت بنا إعلامية جزائرية فاضلة، تبحث عن شخصيات وطنية وازنة بعد أن حاورت أستاذنا الكبير الشيخ محمد الصالح الصديق، في سلسلة حلقات نشرتها في موقع بركة – نيوز الواعد، طالبة منا هذه الأستاذة الكريمة مساعدتها، قائلة لي بالحرف الواحد:” استاذنا الفاضل في البداية اجدد شكري لكم على كل مساهماتكم.. واطمع في كرمكم.. في أمر سيكون لكم فيه أجر وفضل.. أود نفض الغبار عن الشخصيات الوطنية والعلمية لنوصل الرسالة ونبلغ الأمانة”. راجية مني ارشادها لبعض مشايخنا ومعارفنا مع جزيل الشكر والامتنان سلفا” على حد قولها، و كان ردي فوريا ان اقترحت عليها مباشرة التواصل تحديدا بأستاذنا الدكتور سعيد شيبان، شاكرا لها جهدها ولفتتها الكريمة لإماطة الغبار عن رموز الخير في بلادي، هذه النخبة التي ترحل يوما بعد يوم دون الاستفادة من علمها وخبرتها حيث كتبت لها معتذرا: “الآن لا تحضرني كل الأسماء، خاصة فيما يخص جيل العلامة الشيخ محمد الصالح الصديق الذي حاورتموه هذا الأسبوع، في سلسلة حلقات مشوّقة هامة للأجيال والطلبة خصوصا”،.. لكنني ذكرتها أنني مستعد أن أزودها بأسماء أخرى، ريثما تصلني أرقام هواتفهم من بعض الزملاء الأفاضل.”
مقرا لها أنه من الناحية الصحية لا أدري هل يستطيع الدكتور شيبان محاورتها عن حياته وحياة شقيقه عبد الرحمان شيبان وزير الشؤون الدينية الأسبق رحمه الله، مبينا لها أن الرجل موسوعة وله كم هائل من المعلومات عن الثورة المباركة التي شارك فيها قبل الاستقلال وبعده، وعن الإسلام ومنطقة القبائل وقادتها ومصلحيها، وقد حضر جل ملتقيات الفكر الإسلامي علما أني تعرفت عليه أثناء هذه الملتقيات كعالم متواضع جدا، بل زاهدا، حتى لما أصبح وزيرا هو أيضا للشؤون الدينية بعد شقيقه الشيخ العلامة عبد الرحمان شيبان رحمه الله..
كان رحمه الله من جواهر النخبة الرسالية المتوازنة:
وفي انتظار أن يكتب لنا بعض زملاء المرحوم وطلبته كلمات خاصة عن الفقيد الراحل ومناقبه قصد جمعها ولو في كتيب إلكتروني، كما أخبرني بعضهم، لا يفوتني أن أنوه بالكلمة المقتضبة التي زودنا بها المفكر الدكتور الطيب برغوث، في منتدى الدراسات الحضارية، والذي يعرف عن قرب ومنذ عقود المرحوم البروفيسور الطبيب السعيد شيبان، بقوله: “لقد كان رحمه الله من جواهر النخبة الرسالية المتوازنة في الجزائر والأمة عامة، بما اجتمع فيه من توازن في الفكر والخلق والنفس والسلوك والعلاقات والعمل. وقد ذهب كغيره من جواهر المجتمع والأمة دون أن تبذل أجيال المجتمع جهدا في الاحتفاظ بجواهر هذه الخبرة والحكمة الكبيرة التي تمخضت عنها تجربته الحياتية الغنية جدا، رحمه الله وألهم ذويه ومحبيه جميل الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا اليه راجعون”
سيرة ومسيرة رمز سعداء الجزائر:
في انتظار أن تصلنا تلك المعلومات، هذه قطوف يسيرة من سيرة “سعيدنا” كما تناقلتها بعض وكالات الانباء والمواقع، حيث شغل الراحل منصب أستاذ طب العيون ووزير الشؤون الدينية والاوقاف. في حكومة مولود حمروش الأولى (من 9 سبتمبر 1989 إلى 25 جويلية 1990) وحكومة حمروش الثانية. (من 25 جويلية 1990 إلى 4 جوان 1991).
ولد المفكر الجزائري الراحل سعيد شيبان في 2 أفريل 1925 في ولاية البويرة. درس بالمسجد العتيق في القرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية للأهالي بمشدالة. حيث كانت آنذاك المدرسة الوحيدة بالمنطقة. وتحصل بها على شهادة الابتدائية في ماي 1937.
وفي جويلية 1946، تحصل على شهادة الباكالوريا والتحق بالكشافة الإسلامية تحت إمرة المرشد العام للكشافة الإسلامية العلامة محمود بوزوز، كما أنظم الى النشاط السري لحزب الشعب الجزائري، ثم سافر إلى ألمانيا والتحق بجامعة ستراسبورغ. وفي مارس 1956 شارك في مؤتمر اتحاد الطلبة الجزائريين في باريس.
وشارك في مؤتمر ستراسبورغ مع أحمد طالب الإبراهيمي وبلعيد عبد السلام ومحمد الصديق بن يحي وغيرهم.
وشارك في إضراب الطلبة في ماي 1956. ثم في جويلية 1958، قدم أطروحته التي كانت جاهزة قبل عامين. ونجح في عام 1959 في امتحان تخصص طب العيون.
في ماي 1962 أشرف على مستشفى تيزي وزو بطلب من جبهة التحرير الوطني وبقي فيها 6 سنوات.
وفي سنة 1969، عين رئيسا لبعثة طبية جزائرية لمساعدة دولة النيجر بسبب الحرب الأهلية. وانتخب أمينا عاما لإتحاد الأطباء الجزائريين في سنة 1974.
وفي 1979 أسهم الراحل مع البروفيسور أحمد عروة في تأسيس الجمعية الجزائرية لتاريخ الطب.
في 1984 ساهم في إعداد المعجم الطبي الموحد. حيث كان عضو لجنة العمل الخاصة بالمصطلحات الطبية العربية.
وفي 3 ماي 2008، تم منح الراحل وسام الاستحقاق «وسام الاثير» رفقة ثلاث شخصيات متميزة.
من مؤلفاته في السياسة وتاريخ الجزائر:
كتاب في مجلدين بالفرنسية، لست أدري هل ترجم للعربية أم لا، طبع دار لارمطان الفرنسية، الني لا تنشر إلا لأصحاب الأقلام العملاقة، بعنوان:
L’Algérie entre totalitarisme et populisme; la fausse ouverture ou l’heure des illusions / désillusions
ما يمكن ترجمته: الجزائر بين الشمولية والشعبوية؛ الافتتاح الكاذب أو ساعة الأوهام/ اللا-أوهام. بحيث يشرح فيه المؤلف تاريخ” النظام ” الجزائري، الذي نشأ في عام 1962. واستند بشكل أساسي على الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني) وبروز الشرطة السياسية (الأمن العسكري)، المخالفة لتطلعات وتقاليد الحرية للجزائريين التي ضحى من أجلاها ملايين الشهداء. مع الاستبداد من بعض الحكام في التسيير وسوء الإدارة والفساد والشخصانية التي يمقتها كل ذي بال، والإفلات من العقاب وعدم الشفافية في التسيير والانجاز التي فرضتها ثورة الشباب في عام 1988، وهو تاريخ الانفتاح السياسي، في الجزائر.
ومن أهم أعماله – حسب الكلمة التي أبنه بها الشيخ الدكتور عمار طالبي، أن الدكتور شيبان جمع بعض أصحابه حول “مائدة القرآن” منهم الدكتور عمار طالبي والاستاذ عبد الوهاب حمودة و الدكتور محفوظ سماتي، لترجمة القرآن الكريم للفرنسية في بيته بحيث نظموا ثلاث لقاءات في الاسبوع و لمدة خمس سنوات، حيث بثت الحلقات في التلفزيون الجزائري الناطق بالفرنسية، “كنال الجيري”، ثم اشترك معه الأستاذ عمار طالبي في تحقيق كتاب “الكليات في الطب لابن رشد” ، وطبع الكتاب في الاتحاد الدولي للأكاديميات.
بعد عمل الوزارة تفرغ للعمل الإعلامي والدعوي والطبي
ومع بداية العشرية السوداء، وبعد العمل المضنى في الوزارة تفرغ للعمل الإعلامي والطبي والدعوي معا، بحيث أعد وقدم بعدها آلاف الحصص الدينية، في التلفزيون الجزائري باللغات الثلاث العربية والفرنسية والقبائلية.
والمرحوم يعد من الرعيل الأول الذي التف حول بقايا جيل الحركة الإصلاحية، وقام بدور كبير في نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة، وبناء الوعي الإسلامي الصحيح، وإحياء التدين الصحيح في أوساط النخبة الجامعية أولا ثم في الأوساط الشعبية ثانيا بعيد الاستقلال، من خلال انخراطه رحمه الله، مبكرا في مسيرة الصحوة ومشاركته في بنائها “مع كوكبة كبيرة من نخبة الصحوة في الجامعة الجزائرية بالعاصمة خاصة، أمثال المرحوم سي عبد الوهاب حمودة، و د. عباسي مدني، و د. محمد جاب الله، و د. التيجاني بوجلخة، و د. عبد الحميد بن شيكو، و د. رشيد بن عيسى، والشيخ محمد السعيد، و د. أحمد بن محمد، ود. أحمد بوساق.. وغيرهم كثر في جامعات وساحات جزائرية أخرى، أمثال الشيخ بن يونس آيت سالم، و د. شرفي الرفاعي، و د. العربي كشاط.. وعشرات بل مئات وآلاف من النخبة الجامعية الذهبية التي وعت حقيقة نفسها وحقيقة دورها في المجتمع، واستعلت على كثير من الإغراءات، واضطلعت بمهمتها الوطنية بقدر ما تستطيع، وواجهت المد اليساري والليبرالي والإمعي الذي كان يمتد في الجامعة وفي المجال الثقافي العام، بحكم التركة الاستعمارية الضخمة التي ورثها مجتمعنا من جهة، وبحكم المد اليساري في العالم من ناحية أخرى في تلك المرحلة من التطور العالمي”، على حد تعبير المفكر الجزائري الدكتور الطيب برغوث في كلمته التأبينية، منذ سنة تقريبا، عن زميله الطبيب الوزير أمحمد بن رضوان، رحمه الله.

صخرة الجيل الذهبي التي تبعثر عليها المد التغريبي
لقد شكل هذا الجيل الذهبي- كما وصفه المفكر الجزائري- ” الصخرة التي تبعثر عليها هذا المد التغريبي في الساحة الجامعية، وانكسرت شوكته”.
أو ما ذكره عنهما الدكتور بوزيد بومدين الأمين العام للمجلس الاسلامي الاعلى عن تواضع المرحوم وحيائه الجم، حيث قال واصفا الوزيرين الطبيبين:” كانت ابتسامته تجمِّل محيّاه، فهو مثل رفيقه الشيخ سعيد شيبان يجلسان حيثما ينتهي بهما المجلس في القاعة للاستماع للعلم، لا يبحثان عن الصّفّ الأول والبهرجة التصويرية وانتظار نشرة الثامنة ليظهرا فيها، جمعهم الاختصاص في الطب والاهتمام بالقرآن الكريم وتفسيره، وأسندتا لهما وزارة الشؤون الدينية ويستكنفان من مناداتهم بلقب “الوزير”، عاش برضوان من راتبه همّه الكتابة والقراءة وتعرف عليه الجمهور المفرنس خاصة في الغرب من خلال حصصه الدينية مع الدكاترة عمار طالبي وسعيد شيبان وكمال شكاط ومسعود بوجنون حفظهم الله.

الوزير الذي لا تفوته صلاة الصبح جماعة أيام الملتقيات:
وهنا احب أن أقر أني لا ادعي صداقة بالمرحوم كغيري ممن عرفوه معرفة حميمية وعن قرب، ولا أدعي الاحتكاك به والتتلمذ عليه كما ذكر بعض معاصريه، ولكنني اذكر اني تعرفت عليه عابرا من بعيد من خلال بعض أساتذتنا من قدماء تلاميذ مالك بن نبي، خاصة في بعض “ملتقيات الفكر الإسلامي”، هذه المدرسة الدعوية التي تربت وتكونت وتعلمت فيها ومنها أجيال الصحوة المباركة، إذ أصبحت هذه الملتقيات معيار صدق أداء الحكومات الجزائرية المتعاقبة وعربون وفاء لثوابتها الوطنية.
وأيضا تعرفت على الدكتور سعيد شيبان، من خلال بعض تلاميذه ممن درسوا معه وعنه في العلوم الطبية من أساتذة وطلبة رواد مسجد جامعة الجزائر المركزية كالدكتور محمد ثابت أول و الدكتور لحبيب هدام و الدكتور عبد الحميد بن شيكو وغيرهم..
رغم كل ذلك ومن خلال هذه الكلمة، لا أحب أن أدخل في صراع وتبرير عن تقييم مساره السياسي ودوافع المرحوم للانضمام لحكومة حمروش مرتين في عهد الرئيس المرحوم الشاذلي بن جديد، لكني أشهد أني تعرفت عليه أكثر، في ملتقيات الفكر الإسلامي، وأبهرني ليس فقط تواضعه وزهده، بل أدهشني تقواه وحرصه على أداء صلاة الصبح جماعة في المسجد دون حراسة ولا بروتوكول، وهو برتبة وزير يصلي معنا كباقي الطلبة وضيوف الملتقى، بحيث كان يصطف ويجلس حيث ما انتهى به المكان، فعلا هذا السلوك لم ألاحظه عند كبار القوم من وزراء آخرين وحكام حتى في الدول الإسلامية التي زرتها، كما تعرفت عليه أيضا في ملتقى الفكر الإسلامي في بوحنيفية ولاية معسر وكذا في ملتقى تبسة، في حكومة قاصدي مرباح رحمه الله، حيث كان يشتري الكتب الدينية بكميات كبيرة، لا أدري هل لمكتبته الخاصة أم يهديها للضيوف أو الطلبة!!

مصادرة “ملتقيات الفكر الإسلامي” ظلم صريح للإسلام في أرض الشهداء
طبعا، بعد أن تم تعديل الحكومة في التسعينات العديد من المرات، وهذا دليل على عدم استقرار الوضع السياسي في الجزائر وهشاشته، فتفرغ للدعوى ” الدولية” عن طريق برامجه التلفزية بالفرنسية خاصة، رفقة كوكبة من العلماء والمفكرين، أمثال المرحوم الوزير الطبيب أمحمد بن رضوان و الأستاذ عبد الوهاب حمودة الأمين العام الأسبق للوزارة والدكتور رشيد ميموني و الأستاذ مسعد زيان وغيرهم.. فأصبح برنامجه في أوروبا بمثابة الملتقى الفكري المفقود مع الفارق طبعا، وكنت كثيرا ما أشجع شبابنا في أوروبا لمتابعة هذه الحلقات التنويرية بلغة فرنسية راقية ..
ويبدو أن قرار منع عودة “ملتقيات الفكر الإسلامي” التنويرية من عدمها يأتي من وراء البحار في الضفة الأخرى للمتوسط، كما أتخذ قبله أو معه “مشروع وأد تعميم التعريب” الذي أفنى الدكتور عثمان سعدي عمره من اجله، وبالتالي ستبقى وصمة عار في جبين الحكومات الجزائرية المتعاقبة مهما كانت علاقتهم بالدين والوطن، وستكتب في أرشيف تاريخها، أن منع أو مصادرة “ملتقيات الفكر الإسلامي” ظلم صريح للإسلام في أرض الشهداء وخيانة لفكر مؤسسيها وتضحياتهم، منهم الدكتور شيبان، وازدراء لحق الشعب الجزائري في طلب العلم يحاسبهم – يوما ما – عليه العباد، كما يحاسبهم رب العباد، يوم لا ينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

“ملتقيات الفكر الإسلامي “حدثٌ علمي وفكري وثقافي عالمي، تشكر عليه الجزائر:
لا لشيء، إلا لأن، “ملتقيات الفكر الإسلامي “حدثٌ علمي وفكري وثقافي عالمي كبير، كانت قد عاشته الجزائر على مدار نحو ربُع قرن تقريبا، من أواخر سنة 1967 إلى سنة 1990 كانت الجزائر خلالها أقرب إلى أن تكون “عاصمة عالمية للثقافة الإسلامية”، يقصدها العلماء الأعلام من كل أقطار الدنيا: من دول المشرق الإسلامي ومغربه، ومن دول أوروبا وأمريكا، مسلمين: من مشارب فكرية وإيديولوجية ومذهبية متنوعة مختلفة، وغير مسلمين أيضا من أعلام العلم والفكر والثقافة . يشهد القاصي والداني أن تلك الملتقيات المسماة “ملتقيات التعرّف على الفكر الإسلامي” كانت جامعة متنقلة، تقدّم للمئات ممن يحضرونها من أساتذة وطلبة جامعات وتلاميذ الثانويات، وللآلاف الذين يتابعونها من بعيد، خلاصات الفكر الصحيح، وتعلمّهم الحدّ المطلوب مما يُسمى “الثقافة الذاتية” وهي القدر اللازم مما ينبغي أن لا يجهله كل مسلم ومسلمة من دينه وحضارته وتاريخه، كما تدرّبهم على أصول التحاور والنقاش والجدل أحيانا .

ملتقيات الفكر الاسلامي تربّصا علميا ثقافيا، وكسبا خالصا للجزائر:
ويمكن أن يشهد على ذلك الألوف ممن “تتلمذوا” وتعلمّوا بشكل أو بآخر في ذلك المنتدى العلمي المعرفي الوارف الظلال، وقد صاروا جميعا، اليوم إطاراتٍ عليا في مواقع متنوعة، في الداخل والخارج، في حقول العلم والفكر، والإدارة والتسيير. إذ كانت ملتقيات الفكر الإسلامي – بالنسبة لهؤلاء الحضور، كما وصفها استاذنا حسن خليفة – أقرب إلى أن تكون تربّصا علميا ثقافيا مفتوحا مدة أسبوع، يستمعون فيه إلى عشرات المحاضرات والمداخلات، ويستمعون أيضا إلى عشرات المناقشات والتعقيبات عن كل محاضرة ومداخلة… محاضرات لذوي العقول الكبيرة الوازنة، وذوي العلم الغزير النافع المتدفق من علماء وأساتذة وخُبراء ومستشارين في الفكر الإسلامي والفكر الإنساني، فيتعلّمون ويتمرّنون، بكل ما يعينهم على صقل ذواتهم وشحذ شخصياتهم وتطوير أنفسهم، وفق ثوابت الوطن.

خسرت الجزائر الريادة والقيادة الفكرية الثقافية للعالمين الإسلامي والعربي
ينبغي التأكيدُ هنا على أمر أساسي وهو أن تلك الملتقيات كانت كسبا خالصا للجزائر حكومة وشعبا، على أكثر من مستوى، وفي أكثر من مجال، ولنستعرض بعضا من ذلك، مما ذكره الدكتور حسن خليفة- حفظه الله :
ـ خسرت الجزائر، دولة وحكومة وشعبا الكثير بـ”توقيف” تلك الملتقيات الجليلة والجميلة، خسرت الدعاية الإيجابية لنفسها، وخسرت تسويق صورتها الرفيعة المشرقة في خدمة الفكر الإنساني؛
خسرت الجزائر ريادة وقيادة فكرية ثقافية على مستوى العالمين الإسلامي والعربي؛ إذ كانت تجتمع فيها مئاتُ العقول الكبيرة العالمة، من أقطار شتى، وكان ذلك يمنحها قوة تأثير هائلة، فتكون قاطرة خير ودولة مبادرات عالمية في فضِّ النزاعات، وحلِّ الخلافات بين الأشقاء والأصدقاء، ويمنحها ـ بفضل الله تعالى أولاـ ثم بفضل تلك النخبة من العلماء وحضورهم الدائم وصداقتهم ومعرفتهم بالجزائر.. يمنحها السّبق في أن تكون دولة ريادة في بسط النفوذ الناعم على عواصم ودول شقيقة وصديقة؛
ـ وهناك خسارات أخرى، لو استمرت تلك الملتقيات لتركَّز الفهم الصحيح للإسلام في النفوس والعقول، ونشأت أجيالٌ وأجيال على المعرفة الحقيقية للإسلام من أصوله وأفواه علمائه الأصفياء الراشدين، وما كان ليحدث ما حدث من فتن واحتراب، في العشرية السوداء ..
ـ كان في إمكان الجزائر بفضل تلك الملتقيات العالمية الرائدة أن تكون وسيطا ناعما قويا بين الفرقاء المتخالفين. وما يحدث اليوم في العالمين العربي والإسلامي: إيران ـ السعودية ـ دول الخليج ـ العراق، سوريا- اليمن- ليبيا – مصر- … لو حرصت الجزائر على بناء “سمعة” دولية من خلال العلماء لأمكن لها الضغط بالعلماء والشعوب التي تحب العلماء ولحققت الكثير من الكسب في ديار الإسلام…
فانظر إلى هذه الكسوب التي قتلها إيقاف الخير العميم في تلك الملتقيات. وأعظمها خدمة الدين وطلب مرضاة الله تعالى، وهو أعظم ما يقدمه الإنسان فردا وجماعة ودولة لله سبحانه و تعالى .. ولله الأمر من قبل ومن بعدُ، ومع خسارة رحيل الدكتور سعيد شيبان وغيره ممن أسعدوا الجزائر والعالم الاسلامي، عزاؤنا في قوله تعالى: ” إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ”…

تعليق واحد

  1. بشير بتاريخ

    نغتنم هذه اللحظات من يوم الجمعة 09 ديسمبر 2022 و نتوجه لله سبحانه بالدعاء لأساتذتنا سعيد شيبان و عثمان سعدي ، سائلين الله أن يرحمهم و يدخلهم في عباده الصاحين ، و أن يفرج عن المكروبين داخل الوطن و خارجه ، و أن يسدد خطى الساعين على طريق الحق .

Exit mobile version