قراءة مكلومة لمسار جهاد شعب أجهشته دموع حبر فاح عطره على المستضعفين
جينيف / سويسرا: محمد مصطفى حابس
انتصار الثورات في تاريخ الأمم عموما مناسبات عزيزة وغالية تتجدد كل سنة للعبرة والتذكر، كما أن الاهتمام بالمبادئ والشخصيات والمحطات التاريخية التي اسست نظما ودولا، بل و أمما، له من المعاني والدلالات الشيء الكثير في استنهاض الهمم وإحياء مناقب الأسلاف وما أنجزوه، بل فيه بعثا وتتويجا لماضي الأجداد الحافل بالخبرات والعبر التي بصمت التاريخ في ذاكرة شعوب العالم، عبر حلقات متراصة الفصول يشد بعضها البعض الآخر، ويحمي حاضرها ماضيها ويستشرف مستقبلها بثقة وأمل كبير، ومن باب الاعتراف بالفضل لأهل الفضل وجب التنويه هذا الأسبوع بالندوة التاريخية الدولية التي قام بها المركز العربي للأبحاث و دراسات السياسات في الدوحة العاصمة القطرية، أيام 28 و29 أيار/ مايو2022، حيث تابعت كما يكون قد تابع غيري بعض أشغالها على القناة التلفزية القطرية الوطنية، أو على وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت اليوم تقرب كل بعيد .. وضمن أعمال الدورة التاسعة لمؤتمر الدراسات التاريخية، خصصت هذه الدورة لموضوع الثورة الجزائرية التي يعتز بها كل من يتوق للحرية والانعتاق ليس فقط في عالمنا الإسلامي بل في عالمنا الإنساني بصفة عامة، إذ اختير للمؤتمر العنوان التالي: “الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستّين: إعادة قراءة لمسارها، ومكانتها، وما تراكم من سرديات عنها”، وقد شاركت في هذا المؤتمر نخبة من الباحثين والأكاديميين المتخصصين في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، من عدد كبير من جامعات العالم العربي والغربي.
تأملات في الثورة الجزائرية في ذكراها الستين
اِفتَتح المؤتمرَ الباحثُ في المركز، محمد حمشي، وعرّف في كلمته بالمؤتمر ودوراته السابقة، ثم تطرّق إلى موضوع دورته التاسعة وأهميته ومسوغات اختياره، ليقدّم بعدها المؤرخ الجزائري الكبير، ناصر الدين سعيدوني، محاضرة افتتاحية بعنوان “تأملات في الثورة الجزائرية في ذكراها الستين”، حاول فيها تقصي الكيفية التي أثّرت بها الثورة الجزائرية في محيطها العربي والإسلامي، والمُكنة التي اقتدرت بها هذه الثورة على تخطي إطارها المحلي واكتساب بُعد عالمي وإنساني، وكذلك الطريقة التي شكّلت الثورة الجزائرية، باعتبارها ظاهرة تاريخية تندرج في الزمن الطويل وليس حدثًا حربيًّا محدودًا زمنيًّا، حصيلةً للتاريخ الجزائري المعاصر، ومشروعًا تحرريًّا توّج المقاومة الشعبية الجزائرية، ووحّد الشعب الجزائري وجنّده، وصاغ المجتمع الجزائري المعاصر الذي وُلد من التحدي والمآسي. وقد حاول الباحث الإجابة لتساؤلات منها : أكانت الثورة الجزائرية حرب استقلال أم ثورة تحرير؟ وبأي كيفية طرحت مسألة السلطة والشرعية بعد الاستقلال؟ وكيف تحوّلت إلى مشروع تنمية؟ وهل أعطت الكتابات التاريخية الجزائرية والعربية والأجنبية للثورة الجزائرية حقّها بصفتها ظاهرة تاريخية فريدة؟
جوانب من الآفاق الفكرية للثورة الجزائرية
تناولت الجلسة الأولى من اليوم الأول، جوانب من الآفاق الفكرية للثورة الجزائرية. واستُهلت بورقة للزواوي بغورة عنوانها: “الثورة الجزائرية من منظور الفلسفة الاجتماعية”. عرج فيها الباحث على الخطاب الرسمي الجزائري، الذي عمد إلى حصر الثورة الجزائرية في المناحي العسكرية والحربية فقط. في حين تناولت ورقة نور الدين ثنيو، “الثورة الجزائرية في الزمن الطويل”، وفيها حاول الاجابة عن سؤال مركزي: لماذا لم تخمد لحظة ثورة الفاتح من نوفمبر، رغم مرور ستين سنة على استقلال الجزائر في عام 1962؟ حيث ما تزال إلى يوم الناس هذا تلقي بظلالها على العلاقات بين الجزائر وفرنسا، حيث تشهد في الآونة الأخيرة اضطرابات أكثر من أي وقت مضى.
أما الجلسة الثانية، شارك فيها مصطفى كيحل بورقة بعنوان “أي أفق أيديولوجي للثورة الجزائرية؟”، محاولا التركيز على المناحي الأيديولوجية التي كانت وراء الثورة، والروح الناظمة لها، ساعيا للإجابة عن أسئلة منها: ما نظرية الثورة الجزائرية؟ وهل للثورة الجزائرية أيديولوجية تستند إليها وفلسفة توجه بوصلتها؟ أما الباحث ياسر درويش جزائرلي، فأكد في ورقته أن سنوات الثورة الجزائرية شهدت نشأة فكر نقدي يحرر الشعوب المستعمرة من التصور الذي نسجه المستشرقون عن هذه الشعوب، والذي كان جزءًا من سياسة الاستعمار.
تفاعل النخب العربية مع الثورة الجزائرية
وفي موضوع ذي صلة بالثورة الجزائرية في الفضاء العربي، قدم بلال شلش (الفلسطيني) ورقة بعنوان “إذا هبّت الشعوب انتصرت: تفاعل فدائيي فلسطين مع الثورة الجزائرية (1954-1967)”، حاول فيها استكشاف روح الثورة الجزائرية التي بثت في فدائيي فلسطين. وقدم صالح أبو الخير (ليبي) ورقة بعنوان “تفاعل النخب الليبية مع الثورة الجزائرية: دور عبد الحميد بك درنة في دعم الثورة”، الذي اختاره الملك إدريس لمهمة دعم الثورة الجزائرية.
وتطرّق الجزائري جمال برجي، في ورقته “تفاعُل الثورة الجزائرية مع محيطها المغاربي (1954 -1958)، مسلّطاً الضوء على هذه الثورة في إطار التعاون والتضامُن المغاربي على الصعيدين السياسي والعسكري، من خلال “بيان أول نوفمبر 1954″ و”مؤتمر الصومام” في 20 آب/ أغسطس 1956
تتقصي الورقة كيفية تفاعل الثورة الجزائرية مع محيطها المغاربي، وتتساءل: هل استمر التعاون المغاربي بعد استقلال المغرب الأقصى وتونس؟ وما مصير المبادرات الوحدوية؟
أما موضوع التلقّي الأميركي للثورة الجزائرية” كان هو عنوان الجلسة السابعة. وفيها ورقةً بعنوان “الثورة الجزائرية في الإعلام الأميركي في أثناء إدارة دوايت آيزنهاور”، وتناوُل الثورة الجزائرية في الإعلام الأميركي خلال فترة رئاسة آيزنهاور الذي كانت حكومتُه تساند فرنسا ماديّاً وماليّاً وعسكريّاً وسياسيّاً، على حد تعبير المحاضر.
وقدّم محمد مزيان، من المغرب، ورقةً بعنوان “حرب التحرير الجزائرية في التقارير الدبلوماسية والكتابات الأكاديمية الأميركية: بين إشكالية الرؤية الموضوعية وتبرير المواقف”، وفيها تحليل للموقف الأميركي من حرب التحرير الجزائرية، اعتماداً على وثائق وزارة الخارجية الأميركية وعلى بعض الدراسات الأكاديمية الأميركية، وقراراتها في مرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة.
وقد تخللت الجلسات مداخلات ومناقشات وأسئلة من الحضور والمتابعين أجاب عنها المشاركون، وقدّموا إيضاحات وإضاءات. وتابع البثّ المباشر على وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعل معه عدد كبير من متابعي صفحات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات و كذا صفحة منتدى دراسات النهضة الحضارية التي نقلت أشغال المؤتمر لمتابعيها في الجزائر و أوروبا..
” لا توجد ثورات عربية بالمعنى الحقيقي للثورة، هناك ثورة واحدة ووحيدة هي ثورة شعب الجزائر، وما عداها فهي إنقلابات بين الزعماء العرب فقط”
وعلى هامش التعليقات على وسائل التواصل، التي أجمعت على نجاح المؤتمر في عمومه، ليس لأن أغلب المتدخلين من أهل الاختصاص بل لأن تاريخ الثورة الجزائرية وشعبها المجاهد فريد من نوعه، وعلى حد قول الديبلوماسي السعودي الأسبق فهد المارك، رحمه الله، لما أراد بعض قومنا من “قبائل عربستان” إجراء مقارنة بين ثورات استقلال بعض الدول العربية في ستينات القرن الماضي، أسكتهم بقوله: ” لا توجد ثورات عربية بالمعنى الحقيقي للثورة، هناك ثورة واحدة ووحيدة هي ثورة شعب الجزائر، وما عداها فهي إنقلابات بين زعماء العرب فقط ” .
و كتب أحد المتسائلين بقوله ” لماذا لا تقام مثل هذه الأعمال الواعدة في جامعاتنا الجزائرية بهذه الجدية والموضوعية والصرامة في الطرح و .. و تبث حتى في قنواتنا ذات المحتويات الهزيلة، ليتعلم منها الصغار و الكبار”، ورد عليهم آخر مثيرا مشكلة هجرة الادمغة الجزائرية للخارج خاصة في العقود الأخيرة، شارحا أن جل المتدخلين الجزائريين استقطبتهم جامعات أجنبية وشرق أوسطية؟
كلما قصرت الجزائر في حق نخبها، اضطرت عقولها مكرهة للارتماء في أحضان حيتان الهجرة
من جهة أخرى نقل معلق آخر، هذه القصة الطريفة الحزينة التي تداولتها منذ بضع سنوات خلت على نطاق واسع مواقع التواصل، بطلها الكاتب الكبير، القاص الروائي، الناقد ومترجم، والأكاديمي الجزائري، الدكتور السعيد بوطاجين عضو اتحاد الكتاب الجزائريين، وعضو اتحاد الكتاب العرب، كما أنّه عضو مؤسس لاتحاد المترجمين الجزائريين و .. حيث كتب الأستاذ بوطاجين، باكيا على تعاسة حاله وهو من هو، قائلا:
“قبل سنوات قليلة اقترحت علي جامعة الرياض (السعودية) منصب أستاذ كرسي، مع راتب محترم لا يقارن براتبي الحالي، إضافة إلى التكفل بالشقة والسفر والتنقل. ما زلت أحتفظ بالدعوات كذكرى، ولا أدري إلى اليوم من اقترحني وكيف. ولأني غبي، كما تعلمون ويعلم القاصي والداني والنذل والرخويات، ووطني فوق العادة، فقد مكثت في الجزائر الشقيقة لتقوية الألم واليأس. كانت الدعوات تبتدئ دائما بأناقة: سعادة الدكتور السعيد بوطاجين المحترم، وكنت أضحك على “سعادة” وعلى “المحترم”. كانوا يعتبرونني إضافة لجامعتهم. لم أذهب لعدة اعتبارات: في جامعة مستغانم مثلا، يقف بعض المسؤولين وبعض الأساتذة على بعد أمتار منك وينادون: يا السعيد، يا السعيد، حتى بعض الطلبة الذين درسوا عندي كانوا ينادونني باسمي، مباشرة بعد المناقشة، كما لو أني كنت أرعى الماعز معهم، ثم إني مكثت في هذه الجامعة الموقرة 11 سنة، وكتبت وترجمت 37 كتابا، ونشرت مئات المقالات الصحفية المتخصصة، وبعد أربعين سنة من التعليم في الجامعة لم توجه لي ربع دعوة لتقديم نشاط أو نصف نشاط، باستثناء الاجتماعات والحراسة وتطبيق ما تمليه الإدارات والتنظيمات الطلابية التي أتت على الأخضر واليابس، حتى عندما مررت بظروف صحية حرجة بقيت مبعدا، كما الذئب، وحيدا وغريبا، قبل أن يتعلموا الخصم من الراتب وعدم الرد على مكالماتي ومراسلاتي بتواطؤ عام. لقد ألفت هذه الأجواء الرائعة، فكيف أذهب إلى الجامعة السعودية وأتخلى عن هذه النعم والمكاسب التي لن أعثر عليها في بلد آخر يفكر في إرساء قواعد البحث بجدية؟ أجل، البحث، هذه الكلمة التي أصبحت أعتبرها من الكبائر بسبب كثرة الكذب والأوهام التي دمرتنا ودمرت العقل. الخلاصة المؤقتة يا سادة يا كرام: أنا أستحق الرجم المبرح، و500 جلدة إن أمكن، لأني لم أكن غبيا فحسب، بل لأن الغباء كان يدعى السعيد بوطاجين. آمين.. “.
على الرغم من مبالغة الأستاذ بوطاجين نوعا ما في سرد قصته المؤلمة لا شك ، إلا أن مثل ما وقع له عاشه العديد من الأساتذة والعقول جزائرية وعربية في بلدانهم منهم من استسلم ومنهم من قاوم ومنهم اضطر مكرها للهجرة حفاظا على نفسه واستثمارا لمجهوداته في مخابر راقية متقدمة مقتنعا بأن العلم لا تقيده حدود ولا تضيع حبره سدود.. والله ناصر عبده ولو بعد حين، كما جاء في حديث أبي هريرة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ والإمامُ العادلُ ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى عزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ”.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version