كأغلب الغيورين على مصير شعبهم ووطنهم صرت أصبح وأمسي منذ 22 فيفري الفارط على ما يجدُّ في صفحات الفايس بوك الذي أضحى أداة مقياس نبض الشارع وكذلك من يسعى لتحديد وجهته ودرجة توتره لأنني اعتقد شخصيا أن انتفاضة 22 فيفري لم تكن عفوية، فهي بدون شك بفعل فاعل و من اجل غرض معين و لزمن معين ولكن حالة الاحتقان والاستياء والغضب من الوضع الذي كانت عليه البلاد جعل الشعب يلتقط الشرارة  ويحوّلها إلى انتفاضة سلمية شاملة بمطلب موحد وعزيمة قوية في تغيير كلي وإصلاح حقيقي للوضع الذي فاق فساده وانحرافه كل تصور؛ و لقد باغتت ثورته الجميع وفرضت أسلوبها السلمي الحضاري على المصالح الأمنية التي تفاعلت إيجابيا معها على غير العادة خاصة في العاصمة بعدم التصدي لها و منعها فانضم الخائف والمتردد واليائس وأصبح الشعب يتنسم بشائر الحرية و الإنعتاق، فتحرر و حرر بثورته المباركة طاقات خيرة في السلطة استقوت بالحراك وانقضّت على أوكار الطغاة والمفسدين. فزاد ذلك من عزيمة الشعب  وابتهاجه وهو يرى رؤوس عصابة المفسدين الذين كثيرا ما أهانوه واحتقروه يُجرُّون صاغرين إلى المحاكم فاستبشر بقرب استعادة سيادته كاملة وبالقدرة على تقرير مصيره و التفرغ إلى بناء نهضته، ولقد تعززت أماله بالوعود التي تبدو قاطعة في نداءات السلطة المتكررة إلى تكوين لجنة مستقلة للتحضير و الإشراف على الانتخابات.

هذا نصف الكأس المليان و لكن هناك متوجس ينظر  إلى النصف الفارغ و له مبرراته و هو يرى الإصرار على إبقاء في أعلَى هرم السلطة بعض رموز النظام السابق وبالذات الحكومة التي عينها الرئيس المعزول فيتساءل: كيف لمن تمرّس في الفساد والتزوير أن يؤتمن على تسيير الانتخابات المقبلة والمؤمل أن تكون بنزاهتها و حريتها اللبنة الأولى في بناء دولة القانون المنشودة؟  كذلك يعتبر انه من اجل أن تكون الانتخابات معبرة عن كل الجزائريين يجب أن لا يحرم منها احد في الداخل أو في الخارج، و المعلوم  أن جميع المهجرين السياسيين تمت عملية إقصائهم وإبعادهم وحرمانهم من حقوقهم من طرف العصابة التي تجذّرت في السلطة منذ عقود وانقلبت على إرادة الشعب وأوقعت بينه وبين مؤسسات الدولة بافتعال حرب أهلية كادت أن تأتي على الأخضر و اليابس، فلا يجب إذن أن يبقى لقراراتها التعسفية أي شرعية بالنسبة للمهجرين أو المسجونين السياسيين ضحايا المحاكم الخاصة والأحكام الجائرة والتهم الباطلة التي طالت كثير من الأبرياء في العشرية الحمراء.

إن ما تحقق من تفكيك النظام الفاسد و تحرير العدالة – للقيام بواجبها في متابعة و محاكمة الفاسدين و فضح من تآمروا على البلاد منذ عقود و رهنوه من اجل حمايتهم أو لعمالة متأصلة في نفوسهم لألد أعدائه – يمثل بحق إنجازا عظيما، مما يجعل الكثير من المتتبعين النُّزهاء يؤيدونه ويآزرون القائمين عليه. و لكن سواد الشعب الذي اكتوى بانتكاسات كثيرة هزت ثقته في نظام الحكم والمنتمين إليه، و كذلك في الأحزاب السياسية التي اتخذها ديكورا لديمقراطيته المزعومة لن تزيل شكوكه وتخوفاته إلا إجراءات ملموسة أقلها تغيير الحكومة الحالية والإفراج عن بعض ضحايا مآسي التسعينات، و بالأخص إنشاء لجنة مستقلة كاملة الصلاحيات في إصلاح قانون الانتخابات و الإشراف عليها إلى حين الإعلان عن النتائج؛ إن التحجج باحترام الدستور في تأجيل اتخاذ مثل تلك الإجراءات المطمئنة والمهدئة لن تقنع سواد الشعب الذي يعتقد أن السلطة لن تعدم القدرة، كما رآها تفعل من قبل على تكييف المواد القانونية من اجل اتخاذ مثل تلك القرارات إن لم تكن موجودة في الدستور أصلا وبالأخص في ظرف استثنائي كالتي تعيشه البلاد حاليا.

فمِن المعلوم أن النظام السابق الذي تمكن من البلاد لعقود من الزمن و عثا فيها فسادا لن يستسلم بسهولة، و من المؤكد انه يقود الآن ثورة مضادة بأساليب شتى  وسيسخر كل ما لديه من علاقات و ما بنا من ولاءات و كدس من ثروات من اجل حماية مكتسباته والحفاظ على مواقعه؛ لقد حاول الكيد و الاستعانة ببعض حلفاءه الأجانب،  بعد أن بوغت من حيث لم يكن يتوقع، كما يسعى جاهدا ركوب موجة الثورة و تحويل مسارها من ثورة سياسية تهدف استرجاع سيادة الشعب و القضاء على نظام فاسد قوامه الزبائنية وشراء الذمم والاحتماء بالخارج إلى مطالب فئوية ضيقة و هوياتية و إيديولوجية؛ لقد بث سمومه و دس شائعات مغرضة و شعارات مشبوهة كادت تدخل الحراك في صراعات بينية تهدد أهم أسباب قوَّته التي تتمثل في سِلْمِيتِه وشُمولِيتِه.

 يجب إذن الاجتهاد في قطع الطريق على الأياد الخفية التي تغذي تلك الشائعات و تسعى لتسميم العلاقة بين من لهم إرادة صادقة في تغيير بنّاءٍ، من داخل السلطة و خارجها، لإفشال عملية التغيير برمتها لا قدر الله إذا لم يلتف حولها الشعب ويباركها. و ذلك يتطلب إجراءات مطمئنة عاجلة لان الشعب لن ينسى معاناته و جروحه الغائرة بسبب الالتفاف حول هباته السابقة  بعد ثورة التحرير الكبرى في تجارب ثلاث:

(1) – الأولى سنة 1962 حين خرج كرجل واحد يصرخ، في وجه الإخوة المتناحرين على السلطة، “سبع سنين بركات” فاستغلّها من بيده القوة على أنها تعبير عن حالة الإعياء التي أصابته بعد معاناته وصبره طيلة ثورة التحرير المباركة فانقض عليه بحكم استبدادي وبالتهميش طيلة عقود.

(2) – الثانية سنة 1976 حين وصلت السياسة المتبعة إلى طريق مسدود وأحست السلطة برفض الشعب فأرادت أن تعرف توجهاته بمسرحية الميثاق الوطني فقامت بمهرجانات كلامية في القاعات العامة ودور السينما في كل المدن و المداشر و فتحت المجال ليعبر كل من أراد عن رأيه دون تحفظ وتعقيب فكانت ومضة أمل أعربت فيها الأغلبية أثناء أسبوعين بكل قوة و وضوح عن رفضها للسياسات المتبعة وعن حقها في السيادة وتمسكها بثوابت الأمة، و لكن جواب  السلطة كان مخيبا للآمال بتعيينها مباشرة بعد ذلك على رأس قطاعات حساسة كالتربية والإعلام والثقافة أشخاص من نفس التيار التغريبي،  ذوي توجهات مغايرة لما نادت به الأغلبية، فاعتبرها البعض ردة استفزازية و احتقارا لتطلعات الشعب وأبقت السلطة على تعسفها وانفرادها بالقرار.

(3) – ثالث خيبات الشعب حصلت سنة 1988 يوم نفذ صبره و أصبح يقضي جل وقته في طوابير المخابز أو بحثا عن الدقيق و الماء الشروب في أزمة يشهد الكثيرون على أنها كانت مفتعلة، فثار الشغب في ثورة هوجاء و كاد يقضي على الأخضر و اليابس، فحاولت السلطة  إخماد ثورته بالقوة التي راح ضحيتها المئات من الأبرياء في المدن الكبرى وبالأخص في العاصمة،كما حصل في مجزرة باب الواد  التي أجّجت  الغضب، فما كان على السلطة إلا أن تعلن عن تغيير جذري في نظام الحكم بإصدار دستور جديد يضمن الحريات و يسمح بالتعددية الحزبية وانتخابات حرة؛ فابتهج الشعب و ظن انه استرجع سيادته وعبر عن ذلك في موعدين انتخابين اتسما بالسلمية والشفافية و روح المواطنة للمرة الأولى في تاريخه، وعاش ما يقرب السنتين في جو من الحرية والشعور بالكرامة لم يعرفها من قبل و ظن كما اعتقدت معه باقي شعوب العالم  أن الجزائر تعطى المثل في بناء الديمقراطية كما أعطته من قبل بثورتها التحريرية. و لكن سرعان ما تبين أن النظام الحاكم منذ الاستقلال لم يكن ينوي بإصلاحاته تلبية طموحات الشعب في بناء دولة العدل و القانون، و أنها ما كانت سوى مهلة لالتقاط أنفاسه ثم الالتفاف عن مطالب الشعب والاستعداد الأحسن لإحكام قبضته عليه من جديد.  و هذا ما حصل بعد الانقلاب على إرادة الشعب سنة 1992 بافتعال ما يشبه الحرب الأهلية التي زرعت الرعب في النفوس، و هدمت أواصر الثقة والتآزر بين المواطنين، كما أحيت القبلية و الجهوية، وحصدت مئات الآلاف من الجزائريين بين سجين ومخطوف وقتيل يشبه حال اغلبهم حال الموءودة التي قال في حقها المولى سبحانه وتعالى  “وَ إذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِ ذَنْبِ قُتِلَتْ “.

للتذكير فان كل تلك الانتكاسات التي أطالت في عمر الاستبداد و منطق قوة السلاح وكسر إرادة الأغلبية وقعت بمباركة ومشاركة التيار التغريبي الفرنكوفوني بشقيه  المشارك في السلطة، المهيمن على الإدارة و مفاصل الاقتصاد، أو المبتز لها تحت جلباب المعارضة  والمستقوى بالخارج بشعارات الديمقراطية والحداثة و حقوق الإنسان.                                                                                                                   و لذلك فان الشعب بقدر ما يُثمِّنُ للسّلطة الفعلية الآن تفكيكها للعصابة ومحاربتها للفساد بقدر ما يطالبها بعدم الانفراد بالقرار وإشراكه في تقرير مصيره عن طريق ممثلين لم تشوب مسيرتهم شائبة فساد أو مشاركة في منظومته أو انتماء فئوي ضيق. لقد اهتزت ثقة المتفائلين و عبَّر الحراك  وجل الفاعلين السياسيين والمثقفين عن خيبة أملهم بعد تعيين ما سميت بلجنة “الوساطة و التشاور” التي لم يروها تمثلهم و هي تضم وجوه كانت من رموز النظام السابق و أقلام  و ألسُن ولغت في ثوابت الأمة و رموزها. كما أصبح الجميع يخشى أن يتم تعيين لجنة الإشراف على الانتخابات بنفس الطريقة و تتجاهل إرادة الشعب  فيحصل المحظور لا قدر الله وأخفه أن يعزف الشعب على المشاركة في الانتخابات وتُضيِّعْ الجزائر مرة أخرى فرصة تصالحها مع نفسها والنهوض بمقدراتها.

ولكن واقع الحال يقول أنه لا احد يستطيع أن يتنبأ بما قد يحصل فعلا إذا تجاهلت السلطة تطلعات الشعب في تغيير جذري أصبح يراه قريبا، كما بات من غير المعقول أن  يخمد صوته بعد هبته السلمية و أماله العريضة التي دامت شهور طويلة.                                                                                                                                                                       

 لقد حان الوقت لكي يسعى الخيرون و بصدق لتغيير الصورة السلبية لمؤسسات الدولة التي ترسّخت لدى شرائح كبيرة من الشعب وإقامة علاقة جديدة  مبنية على الثقة و الاحترام المتبادل و تقدير المهام خاصة مع مؤسسة الجيش وباقي الدوائر الأمنية.

إنّ الجميع يدرك أن تغيير منظومة فاسدة سخَّرت كل أنشطة الدولة السياسية والاقتصادية والثقافية لصالح  أقلية مسلوبة الهوية منعدمة الضمير تعمل خارج إطار القانون والدستور منذ عقود لا يمكن تحقيقه بسهولة، و يجب أن يتم تدريجيا بتغيير الذهنيات التي عودتها على اختراق القوانين و الأعراف، لكي يتسنى تفكيك شبكة المفسدين المنبثة في الإدارة والمجتمع وكذلك التخلص التدريجي من تركة العقود المجحفة والارتباطات التي نسجتها تلك العصابة مع أطراف خارجية. و لن يتحقق ذلك إلا إذا التقت إرادة السلطة مع إرادة الشعب في بناء دولة أساسها الحرية و روحها  العدل وقوامها تطبيق القانون.

ولكن قبل ذلك ومن اجله، فالبلد بحاجة ملحة وهو مقبل على استحقاقات فاصلة،  إلى وحدة جهود أبنائه المخلصين سواء ممن كانوا خارج دوائر الحكم أو داخلها ممن لا ولاء لهم إلا لشعبهم، فواجبهم الآن إيجاد أرضية مشتركة ومطالب موحدة وتحديد حلفائهم الحقيقيين والعمل معهم لتغليب مصلحة الوطن و عدم  هدر الوقت والطاقات في تحالفات ومهاترات مع المعارضة المزعومة الحليف التقليدي للعصابة والسند التاريخي للاستبداد، كما يجب الكف عن مناكفات وشعارات طالما رفعتها وخادعتنا بها الأقلية المتسلطة والتي بتوحيد الأغلبية سوف تعود إلى حجمها الحقيقي دون ظلم أو احتقار.    

كذاك إنه من الضروري و الواجب الوطني أن تعي أي سلطة مقبلة أنها لن تستطيع أن تحدث التغيير المنشود لصالح العباد والبلاد إلا إذا استمدّت شرعيتها من الشعب وحصلت على ثقته وأنّ ذلك هو صمام الأمان لاستقرارها وحمايتها من الابتزاز وهيمنة قوى الشر الداخلية و الخارجية.

” والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل ”                                                    الجزائر 08/09/2019

تعليقان

  1. أين هو البديل ؟
    قلبي على أحرار الجزائر ، أحرار الجزائر باتوا غرباء ، لقد كابدوا جيلا بعد جيل ، غربة تلو غربة ، باللحم و العظم و الدم ، فحفرت داخل ذاكرتهم جراحا من الصعب أن تلتئم ، و بات مسارهم جدا متميزا . و إذا كان من الضروري اليوم أن نرسم منحاه من جديد و نذكر بفحواه ، فمن الواجب أن لا نبدأ من الصفر ( داء الاستئنافية ) ، بل يجب أن نعمل ذاكرتنا الجمعية على مستوى أعلى من التأمل و التفكر و الاستشراف ، و مثل هذا لن يكون سهلا بسيطا .
    *للتذكير :
    سبق و أن أشرت إشارة خاطفة تحت عنوان : مواقف في الميزان ، فكتبت بتاريخ ١٥ماي ٢٠١٩ ما يلي :

    هناك من يدفع من باب أن الأولوية لقيام مجلس تأسيسي يبت في سؤال الدستور، ذلك أن سؤال الدستور هو الأهم بخصوص عملية بناء دولة المواطنة التي يكون القانون فيها هو الفاصل والواصل في آن واحد، فاصلا بين كل المتخاصمين، وواصلا بين كل الجزائريين، في السراء والضراء، وما لم يكن الفاصل حاضرا وفاعلا، لن يكون هناك واصل. وهذا هو مرد تخوف الجزائريين على حراكهم، سواء بخصوص تأجيل البت في سؤال من يقود الحراك، أو بخصوص من يتمسك بالحل الدستوري، وفي كل الحالات، فإن البت يبقى، وينبغي أن يبقى من اختصاص الشعب عموما، والحراك الوطني على وجه الخصوص، لذلك فلا المتعجلون بوجوب المرور عبر مجلس تأسيسي يهتم بالبت في سؤال الدستور، ولا الذين يراهنون على الحل الدستوري للخروج من الأزمة، ولا المتعجلون بوجوب ظهور قيادة الحراك، يمكنهم تجاوز المطلب الحقيقي للحراك، وهو العبور في جو السلمية والهدوء إلى اختيار حر، لرئيس للعباد والبلاد يكفيهم شر الانقسام الذي لن يرضي سوى العصابة بكل أدواتها .

    * الموقف ٠١ : المتمسكون بالحل الدستوري .

    ليس هناك من راهن على الحل الدستوري، سوى العصابة التي راهنت على العهدة الخامسة، وللأسف الشديد فإن قيادة الأركان، هي الأخرى، سلكت هذا المسلك، كان ذلك يوم قرر رئيس الأركان تفعيل المادة ١٠٢ من الدستور، والتي على إثرها استقال الرئيس، وللتاريخ فإن من أسقط الرئيس هو الحراك الشعبي الذي ضغط كثيرا، ولو لم يكن هناك حراك شعبي، ما كان الجميع في دائرة السلطة سيذكرون المادة الدستورية التي أهملوها رفقة النص الدستوري لأربع عهدات وزيادة، واليوم لم تبق جهة تتحدث عن الحل الدستوري سوى قيادة الأركان، ولو أجرينا استفتاء على مستوى مؤسستنا العسكرية عبر اقتراع سري نظيف، لكانت النتيجة في غير صالح قيادة الأركان، حتى وإن كان مثل هذا الاستفتاء بعيد المنال. أما والحال كذلك فإن العقبة التي باتت العائق الأكبر في طريق الحل هو ورقة التمسك بالحل الدستوري، ومثل هذا، لن يخدم سوى العصابة الأخطبوط .

    * الموقف ٢: الأولوية لقيام مجلس تأسيسي .

    أصحاب هذا الموقف هم من يرون أن الحل الأنسب، من بعد تجاوز ورقة التمسك بالحل الدستوري بطبيعة الحال، والتي ستنتهي معها عقبة الباءات، هو قيام مجلس تأسيسي يبت في سؤال الدستور قبل أي استحقاق آخر. مثل هذا الطرح قرأناه في موقف السيد محسن بلعباس رئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ، ومن دون شك فإن هؤلاء يتخوفون من إمكانية تجاوز أو تجاهل مطالبهم، التي سوف يتقدمون بها آجلا أو عاجلا، ويعملون على الإقناع بها، وذلك من صميم مطالبهم الثقافية على وجه الخصوص . وعلى هذا الأساس، ومن هذا المنطلق، يمكن التأكيد على أن مصدر المخاوف هو بسبب دوائر الفساد و الاستبداد التي خنقت الحريات أمدا طويلا. أما و الحال كذلك فإن أبجديات العمل الديمقراطي تقتضي أن يسلك الجميع في نطاق دولة المواطنة السلوك الحضاري المتشبع بروح السلمية، مما يفضي إلى التزام الجميع بالحد الإيجابي، و هو الحد الوسط الذي يعبر فعلا عن إرادة الإنسان الحر الذي يقف، أو يجب أن يقف حدا فاصلا بين نافية الأنا، و نافية الآخر . و هذا هو مبتغى الحراك الوطني المتفرد في سلميته. لكن، وبالرغم من أهمية الموقف، إلا أن شرائح واسعة ضمن جسد الحراك تتخوف من أن يتحوّل استحقاق المجلس التأسيسي إلى أهم مدخل يمكن أن تدخل من خلاله فلول العصابة، و قوى الثورة المضادة، فتعكر صفو كل الجزائريين، وتدفع بهم إلى ما لا يحمد عقباه، ومثل هذا يبقى ممكننا جدا، والدليل هو الاستماتة، اليوم، من أجل إفشال الحراك الوطني. و على هذا الأساس فإن أول استحقاق، من بعد تجاوز عقبات العصابة، هو قيام هيئة سياسية، و عبارة “سياسية”، لا تعني تشكيلة أحزاب سياسية، و إنما هي وظيفة الهيئة، التي يجب أن تقتصر على الجانب السياسي من أجل تهيئة المشهد لانتخابات رئاسية، و من دون شك فإن تشكيلة الهيئة، يجب أن تطمئن المتخوفين من كل جانب، بمن فيهم المتطلعون لمحاكمات عادلة. ولا شك في أن الرئيس المنتخب سيكون في مستوى تطلعات كل الجزائريين، الذين وجب من الآن أن يفهموا ويدركوا أن الجزائر تسعهم جميعا، محسنهم، مسيئهم، و زيادة .

    الموقف٣: المتعجلون بخصوص قيادة الحراك

    لا يختلف اثنان بخصوص أهمية عنصر القيادة، لكن، ومن بعد أن برهن الجزائريون عن خصوصيتهم في عالم المبادرة، خصوصا ما تعلق بتلقين المستبدين، والمارقين، الدروس العظام، ومن بعد أن أبهروا البعيد قبل القريب بسلميتهم المتفردة كثيرا، فإن عدم تسرع الحراك للإجابة على سؤال عنصر القيادة، كان في محله كثيرا، وأثبت جدواه كثيرا، ولعل صبر الجزائريين في حراكهم على ذلك، سيساعدهم من باب المفاجأة كذلك، على إعطاء الجواب الشافي بخصوص قيادة الحراك، في الوقت الذي يحدده الشعب، و ليس في الوقت الذي يريده المتمسكون بالحل الدستوري الذي راهنت عليه العصابة طويلا. انتهى .
    و الآن بعد مرور نصف سنة على هبة الشعب الثائر على الاستبداد و الفساد نجد أنفسنا بين بديلين أحلاهما مر ، بل أفضلهما سيعطل من دون شك مسار الغرباء على خط الحرية و الكرامة ، و ليس أغرب من أن يبقى الشعب الجزائري قرنا و ربع القرن تحت نير الاحتلال الغاشم ، و نصف القرن تحت وصاية الاستبداد ، غريبا في وطنه الجزائر !
    البديل الأول :
    البديل الديمقراطي : أكثر الذي آلمني هو تحيز كل من الأرسيدي و الأففاس ، ليس بطبيعة الحال إلى الشعب في هبته الوطنية من أجل بديل ديمقراطي حقيقي و صارم ، بل ، للأسف الشديد إلى حزب لويزة حنون التي ثبت للعام و الخاص اختيارها لخيار العصابة بقيادة توفيق و نزار و رضا مالك و العربي بلخير و علي هارون و تواتي ، و ما خفي أعظم . فبدل أن يكون بديلا ديمقراطيا معبرا عن تطلع الشعب إلى الحرية ، صار اختيارا يقلق أكثر مما يطمئن ، بل و تسبب في إرباك الثائرين المتعطشين إلى التغيير . و لهذا السبب لم يعد مطلب المرحلة الانتقالية من أجل مجلس تأسيسي للبت في سؤال الدستور بريئا .
    بديل عبد القادر بن صالح :
    الواقفون خلف بن صالح ليسوا سواء ، هناك من يحن لعهد بوتفليقة ، و قبله لأيام توفيق و خالد نزار ( شاهد زور ) ، إنهم يظهرون خلاف ما يبطنون ، تعرفونهم بسيماهم ، و ما يميزهم جميعا هو الانتهازية و الخيانة و الجشع ، يأكلون من كل الصحون ، و يقتلون البريء و يتصدرون مشيعيه ، و إن تطلب الأمر يصلون من دون وضوء ، حضروا مع كل الرؤساء ، و ما أخذوه من رشاوى لا نظير له . أما الفئة الثانية فهي المحسوبة على قيادة الأركان تحت قيادة الفريق قايد صالح ، الظاهر هو من يمسك اليوم بزمام الأمور ، بمعنى هو واجهة السلطة الفعلية ، و هذا مربط الفرس . و عند هذا الحد يمكننا تشخيص جوهر موقفها من حيث الآتي :
    ١_ ما الذي يقلقها من موقف السيد لخضر بورقعة ، هل هو استئصالي ، هل هو فاسد ، هل هو جهوي عميل لفرنسا ، هل ثبت في حقه مساندة بوتفليقة في واحدة من عهداته ، هل شكل رفقة توفيق ، طرطاق ، السعيد ، خطرا على الجيش ؟
    ٢- لماذا لم تقبل بمبادرة الإبراهيمي ، علي يحي عبد النور ، رشيد بن يلس . هل هؤلاء فاسدون ، هل ساندوا بوتفليقة ، هل سبق و أن تآمروا على البلاد و العباد ، هل ثبتت في حقهم رشاوى ؟
    مما سبق يمكننا التأكيد على أن أكبر ضمانة يمكن أن تقدمها قيادة الأركان للشعب هي إطلاق سراح السيد لخضر بورقعة ، و الاستماع إلى ثلاثي المبادرة سالفة الذكر ، حينها ستنتهي المشكلة . و من دون ذلك ستزيد شكوك الجزائريين و تزيد مأساتهم .
    * أين الحل ؟
    الحل في البديل الحضاري الذي يسع كل الجزائريين ، و يريحهم جميعا، و أقرب طريق لتفعيل هذا البديل هو تفعيل الإجراء سابق الذكر الخاص بالسيد بورقعة و المبادرة الحرة .

  2. من الواجب التوضيح
    من أجل إزالة اللبس بخصوص مطلب المرحلة الانتقالية يمكننا الاستعانة بذاكرتنا الجمعية انطلاقا من تسلسل الأحداث .
    ١ _ كانت العصابة الأخطبوط أيام الحديث عن العهدة الخامسة تراهن على استغباء الشعب من خلال العروض المسرحية التي أدى بطولتها مهرجو السلطة امثال سلال ، ولد عباس ، سعداني ، أويحي ، و كثيرا من الأدوات التي استخدمها جهاز الديراس . ثم انتقل التفكير إلى تمرير ورقة لخضر الإبراهيمي ، رمطان لعمامرة من باب إلحاق الأذى بذاكرة الجزائريين ، غير أن العصابة من بعد خروج الشعب إلى الميادين و الساحات بقوة ، أول ما فكروا فيه هو محاولة فرض مرحلة انتقالية رهانا على عامل الزمن . و على هذا الأساس فإن السلطة الفعلية التي باتت ، تحت طائلة سياسة التخلاط التي انتهجها عبد العزيز بوتفليقة منذ البداية ، غير متجانسة للمرة الأولى من بعد رحيل هواري بومدين واستبعاد بوتفليقة لأكثر من عشرين سنة ، خصوصا على مستوى جهاز الاستخبارات ، هي من كانت تبحث على استدراج الشعب إلى مرحلة انتقالية تحت طائلة الحل الدستوري .
    ٢ _ الطرف الثاني الذي رفع مطلب المرحلة الانتقالية هو ما يسمى بالبديل الديمقراطي ، و للأمانة فإن الأرسيدي هو صاحب السبق في هذا الشأن بالذات ، لكن وجب التمييز بين هدف هؤلاء من جهة، و هدف السلطة الفعلية من ناحية أخرى . فإذا كانت السلطة الفعلية تريد تجديد جلدها و واجهتها تحديدا ، فإن هدف البديل الديمقراطي هو التحكم من البداية ، قبل أي استحقاق ، بنص الوثيقة الدستورية لافتكاك المطالب التي كثيرا ما نادت بها ، ليس عن طريق الاستفتاء الشعبي ( سلطة الشعب ) ، و لكن عن طريق التفاوض ، و تحديدا من خلال استغلال الوضع الاستثنائي للبلاد .
    مما سبق يتضح لنا أن ورقة المرحلة الانتقالية هي ورقة يمكن استخدامها وفق أهداف كل طرف بعيدا عن الإرادة الشعبية ، حتى و إن كان هناك من يقرأ الورقة أكاديميا بعيدا عن التجاذبات الحزبية و الأغراض الفئوية .
    ٣ – مطلب الحراك الشعبي الأساسي هو ذهاب الاستبداد و الفساد، فقد طالب بذهاب الباءات ، لأنها ببساطة جزء لا يتجزأ من دائرة الفساد التي زورت الانتخابات و نهبت المال العام ، و لم تلتفت إلى الشعب المسحوق في يوم من الأيام ، و مما زاد الصورة سوادا انخراط ما يسمى بالمجتمع المدني بمختلف منظماته و أوجهه في أكل السحت من على مائدة السلطة الفعلية . و عليه فإن الشعب رفض كل خرجات السلطة و الأحزاب التي رافقتها خلال أربع عهدات ، و رفض أي انتخابات تشرف عليها السلطة ، مما يعني أن الشعب كان يؤكد في كل مرة على أن الحل يجب أن يكون سياسيا من خلال هيئة موثوق بها شعبيا بعيدا عن كل المناورات من أجل تهيئة الظروف لاختيار ممثليه بكل حرية و كرامة .
    ٤ – سياسة الأمر الواقع : السلطة الفعلية تجددت ولم تتغير ، تخلصت من بعض أذرعها و حافظت على جوهرها ، و أكدت أنها لن تسمح للشعب باختيار حر يفرز حكاما و ممثلين أحرارا يخدمون الشعب و يبنون الجزائر بعيدا عن كل وصاية . و على هذا الأساس استغلت ذات السلطة تركيز البديل الديمقراطي على مطلب المرحلة الانتقالية ، و صورت من خلال إعلامها و أبواقها أن الحراك لا يريد الانتخابات ، ولا يحتكم للصندوق ، و هو عين البهتان . و عليه وجب التمييز بين من يريد انتخابات حرة ، و هو الشعب ، و من يريد انتخابات على المقاس ( مزورة ) و هي السلطة . و للأسف فقد انطلت الحيلة على الكثيرين .
    * المطلوب : تركيز الحراك على مطلبه الوحيد ، و هو ذهاب العصابة ، و فسح المجال للشعب لاختيار ممثليه ، و لن يكون ذلك عن طريق لجان السلطة ، بل فقط عن طريق هيئة سياسية موثوق بهاشعبيا بعيد عن إملاءات أي جهة ، و لو كانت قيادة الأركان ، هذه الأخيرة ليست وصية على الشعب ولا هي ممثلة له، هي خادمة للشعب، يجب أن تحميه من اللصوص و الفاسدين ، و تحمي حدود الوطن العزيز .

Exit mobile version